حق الوالدين على الأبناء عظيم، جاءت الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة مذكرة بهذا الفضل، مؤكدة هذا الأمر، وقد قرن الله حقهما بحقه، فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ولا ريب أن الأبناء ما هم إلا ثمرة جهد وتربية آبائهم لهم، ربوهم صغاراً وعلموهم، وأنفقوا عليهم، وحق على الأبناء أن يبروا آباءهم، ويردوا هذه الديون العظيمة لآبائهم، ولكن يبرز سؤال يحتاج لجواب مفصل مدعم بالأدلة، وهو: هل للأب حق في مال ولده؟ وهل له أن يأخذ من مال ولده؟ والجواب يحتاج لعرض أقوال الأئمة مفصلة، وأدلتهم، ثم تبيين الراجح من تلك الأقوال، أسأل الله العون والسداد.
أقوال الفقهاء في ذلك:
القول الأول:
ذهب أبو حنيفة(1)، ومالك(2)، والشافعي(3) إلى أنه ليس للأب أن يأخذ من مال ولده إلا بقدر حاجته.
أدلتهم:
1 – قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" متفق عليه(4).
2 – قوله صلى الله عليه وسلم: كل أحد أحق بكسبه من والده وولده والناس أجمعين"(5) وهذا نص.
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفسه"(6).
4 – قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلكن فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك"(7).
5 – لأن ملك الابن تام على مال نفسه، فلم يجز انتزاعه منه، كالذي تعلقت به حاجته.
القول الثاني:
ذهب الجصاص(8) إلى أن للأب أن يأخذ من مال ولده، أو ولد ولده ما شاء دون ذكر لشروط، وهو ظاهر كلام ابن العربي(9)، ولم يتطرق الهراسي لهذه المسألة(10)، وقد قال عند قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} ورد تخصيص هذه الحالة بالذكر ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق.
القول الثالث:
قال ابن قدامة: للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه، ومع عدمها، صغيراً كان الولد أو كبيراً، بشرطين:
أحدهما: أن لا يجحف بالابن، ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته.
الثاني: أن لا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر(11).
أدلته:
1 – لأن الله جعل الولد موهوباً لأبيه فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام:84]، وما كان موهوباً له، كان له أخذ ماله كعبده.
2 – ما روت عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" أخرجه سعيد، والترمذي وقال حديث حسن(12).
3 – روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي احتاج(13) مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك"(14).
4 – قال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61]: "ثم ذكر بيوت سائر القرابات إلا الأولاد، لم يذكرهم، لأنهم دخلوا في قوله: (بيوتكم)، فلما كانت بيوت أولادهم كبيوتهم، لم يذكر بيوت أولادهم"(15).
5 – ولأن الرجل يلي مال ولده من غير توليه، فكان له التصرف فيه كـ:مال نفسه.
الترجيح:
الراجح – والله أعلم – ما ذهب إليه ابن قدامة، ولكن بإضافة شرط ثالث عليها، فللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه، ومع عدمها، صغيراً كان الولد أو كبيراً، بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الأب وارثاً(16) ويخرج الأب من الميراث كفره أو رقّه(17)، فلا بد من اتفاقهما في الدين والحرية، وعليه فليس لأب كافر أو رقيق أن يأخذ من مال ولده، إلا على سبيل البر والصلة.
وقد ذهب الشافعي إلى وجوب النفقة مع اختلاف الدين؛ لأنها نفقة تجب مع اتفاق الدين، فتجب مع اختلافه، كنفقة الزوجة والمملوك.
والراجح – والله أعلم – أن النفقة لا تجب في حال كفر الأب، وإنما هو مواساة على سبيل البر والتأليف. وذلك لما يلي:
1 – لأنهما غير متوارثين، كما تقدم بيانه.
2 – اختلاف هذه النفقة عن نفقة الزوجات، وأن نفقة الزوجات عوض يجب مع الإعسار، فلم ينافها اختلاف الدين، كالصداق والأجرة فإنها واجبة مع الرق فيهما.
3 – الصلة والمواساة لا تجب مع اختلاف الدين، كأداء زكاته إليه.
الثاني: أن لا يجحف بالابن، ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته.
الثالث: أن لا يأخذ من مال ولد فيعطيه الآخر.
وما ذكره الحنفية والمالكية والشافعية من أن الأب ليس له أن يأخذ من مال الابن إلا بقدر الحاجة، داخل في الشرط الأول الذي ذكره ابن قدامة.
وأما شرط ابن قدامة الثاني أن لا يأخذ من مال ولد فيعطيه الآخر، فيدل عليه ما يلي:
1 – أن الأب ممنوع من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه(18)، فلان يُمنع من تخصيصه بما أخذ من مال ولده الآخر أولى.
2 – لأن ذلك يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فيكون حكمه كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها(19).
قال الإمام البخاري: "إذا أعطى بعض ولده شيئاً لم يجز حتى يعدل بينه ويعطي الآخر مثله، ولا يُشهَد عليه"(20).
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أحد أحق بكسبه من والده وولده" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" وذلك بالقول: بأن دليلهم محمول على إرادة الأب أخذ مال ولده المعسر.
وأما حديث: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" فهو عام يخصصه قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك".
قال ابن تيمية: "وللأب أن يأخذ من مال ولده ما يحتاجه بغير إذن الابن، وليس للابن منعه"(21).
وأخيراً فقد رأيت أن أتبع هذه المسألة بمسألة لها علاقة بها وهي:
مسألة حكم أخذ الأب من مال ولد ولده.
أولاً: الخلاف في المسألة.
1 – ذهب المالكية(22) إلى: أن النفقة لا تجب على الجد، ولا من الجد على ولد ولده؛ لأن الجد ليس بأب حقيقي.
2 – وذهب أبو حنيفة(23)، والشافعي(24)، والثوري(25) إلى أن نفقة الوالدين واجبة وإن عَلَوا.
ثانياً: الترجيح:
الراجح – والله أعلم – ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي، فنفقة الوالدين واجبة، وإن عَلَوا.
يدل على ذلك ما يلي:
1 – قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف:26]، فسمى الناس بني آدم وإنما هو جدهم، وقوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:38] فسماهم آباء وإنما هم أجداد، وقوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة(26).
2 – قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، ويدخل فيهم ولد البنين.
3 – قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233].
4 – لأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأشبه الولد والوالد القريبين(27).
قال الشيرازي: "والقرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين، وإن علوا، وقرابة الأولاد وإن سفلوا"(28). والله تعالى أعلم.
_____________________
(1) تحفة الفقهاء:2/164، والاختبار لتعليل المختار 4/13.
(2) الكافي 2/629، والتفريع 2/113.
(3) مغني المحتاج 3/447، وتكملة المجموع 20/197.
(4) أخرجه البخاري (البخاري مع الفتح 1/157) رقم 67 (3/573) رقم 1739 (10/7) رقم 5550، ومسلم (2/886) رقم 1218 (3/1304) رقم 1679.
(5) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، في باب: الغلام بين الأبوين أيهما أحق به (2293) والبيهقي في سننه 10/319.
(6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/72، 113، والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب: الغصب، باب: لا يملك أحد بالجناية شيئاً جنى عليه إلا أن يشاء هو والمالك 6/97، وفي باب: من غصب لوحاً فأدخله في سفينة أم بنى عليه جداراً 6/100، والدارقطني في كتاب البيوع 3/26، رقم 91، 92، 93، والحديث صححه الألباني في إرواء الغليل 5/279 رقم 1459.
(7) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب: الابتداء في النفقة بالنفس، ثم أهله، ثم القرابة (997).
(8) أحكام القرآن للجصاص 1/408، 409، 3/335.
(9) أحكام القرآن لابن العربي 3/1403.
(10) قال الكيا الهراسي عند قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا...} "ورد تخصيص هذه الحالة بالذكر ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق" أحكام القرآن (3/253).
(11) المغني 8/273.
(12) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، باب الغلام بين الأبوية أيهما أحق به (2287، 2288، 2289)، والترمذي بلفظه في كتاب الأحكام، باب: ما جاء أن الوالد يأخذ مال ولده 11357، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في كتاب الأحكام، باب: في الرجل يأكل من مال ولده (3528)، والنسائي في كتاب البيوع، باب الحث على الكسب (النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي) (4449، 4450، 4451، 4452)، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب مال الرجل من مال ولده (2290، 2292)، وأحمد في المسند 6/31، 41.
(13) كذا في المغني، وفي سنن أبي داود: يحتاج، وهي في غيرهما: اجتاح.
(14) أخرجه ابن ماجة بلفظه مع زيادة في آخره: كتاب التجارات، باب مال الرجل من مال ولده (2292)، أخرجه بنحوه عن جابر بن عبد الله رقم 291، والطبراني في الكبير بلفظه عن سمرة (6961)، وأبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده (3530)، وأحمد في المسند 6/31، 41، وسعيد بن منصور في سننه، عن محمد بن المنكدر في باب: الغلام بين الأبوين أيهما أحق به رقم 2290، وعن المطلب بن حنطب، حديث رقم 2292، والحديث صححه الألباني، انظر تخريجه مفصلاً في إرواء الغليل 3/323 وما بعدها، رقم 838.
(15) لم أقف عليه.
(16) هذا الشرط لم يذكره ابن قدامة هنا فيما نقلته عنه، ولكنه فصل القول فيه في المسألة رقم 1382، في كتاب النفقات.
(17) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث الكافر المسلم" أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر (6764)، ومسلم في أول كتاب الفرائض (1614)، ومما روي عنه أن العبد لا يرث، ولا يورث، ولا يحجب: علي، وزيد، وبه قال الثوري، ومالك والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. المغني 9/124.
(18) ويدل على ذلك: ما رواه النعمان بن بشير أن أباه تصدق عليه ببعض ماله فأراد أن يُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك بنون سواه"؟ قال: نعم. قال: "فكلهم أعطيت مثل هذا"؟ قال: لا. قال: "فلا أشهد على جور" هذا لفظ مسلم، وفي رواية قال: "أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا"؟ قال: بلى، قال: "فإني لا أشهد"، وعند البخاري قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، وفي لفظ "فاردده"، وفي لفظ "فأرجعه" وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جوراً، وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب. والحديث أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الهبة للولد (2865)ـ وفي كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2650)، ومسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث رقم (1623).
(19) ويدل على تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها (5108، 5109، 5110)، ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح (1408).
(20) البخاري مع الفتح 5/210.
(21) مجموع الفتاوى 24/102.
(22) الكافي 2/629، والتفريع لابن الجلاب 2/113.
(23) تحفة الفقهاء 1/167، والاختيار لتعليل المختار 4/10.
(24) مغني المحتاج 3/447.
(25) المغني 11/374، والشرح الكبير لابن قدامة 5/133.
(26) المجموع للنووي 20/190، 192.
(27) المغني 11/374، والشرح الكبير 5/133.
(28) المهذب مع المجموع 20/188.