اعتبار الشهر في الإجارة بحسب تمامه ونقصانه في الشهر الأول لا بالعدد وكذا إذا أجره في أثناء شهر سنة (*)
صورة المسألة: إذا تم عقد إجارة أو غيرها أو عُلِّق حكم بسـنة في أثناء شهر، فهل يحسب الشهر الأول هلالياً بحسب تمامه ونقصانه، أو يكمل ثلاثين من الشهر الثالث عشر؟. قولان للعلماء.
وهذا الحكم يشمل الإجارة وتعليق الطلاق ونحوهما.
اختيار ابن تيمية:
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الشهر الأول لا يعتبر بالعدد وإنما يحسب بحسب تمامه ونقصانه، فإن كان تاماً كمل تاماً، وإن كان ناقصاً كمل ناقصاً، وعليه فإن كان في أثناء شهر إلى سنة فإلى مثل تلك الساعة من العام القادم، خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة [1]. وبناء عليه فإن نقص فيكمل من الشهر الثالث عشر تسعة وعشرين لا ثلاثين.
تحرير محل النزاع:
أ. لا خلاف بين العلماء أنه إذا كان مبدأ الشهر من أوله حسب بالأشهر الهلالية.
ب. والخلاف في أثناء الشهر [2].
أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول:
أن الشهر الأول يكمل بالعدد، وبقية الأشهر تحسب بالأهلة.
وهذا قول محمد بن الحسن ورواية عن أبي يوسف من الحنفية، وعليه الفتوى عندهم [3]، وهو مذهب المالكية [4]، والشافعية [5]، ومشهور مذهب الحنابلة [6].
القول الثاني:
أن الجميع يحسب بالعدد.
وهذا قول أبي حنيفة ورواية عن أبي يوسف [7]، ورواية عن الإمام أحمد [8].
القول الثالث:
أن الجميع يحسب بالأهلة حتى في الأول، فإن كان تاماً حسب تاماً وإن كان ناقصاً حسب ناقصاً، وكمل من الشهر الثالث عشر. وهذا اختيار ابن تيمية، وذكر أنه التفسير الصحيح لكلام الأئمة في القول الأول وأنه المراد بالعدد في الشهر الأول [9]، ونسبه ابن تيمية لعمل عامة المسلمين، وهو أحد التفسيرين لقول الإمام أحمد.
وعليه فإن أجّره في أثناء شهر سنة فإلى مثل تلك الساعة من العام القادم.
دليل القول الأول:
لأن الأصل في الأشهر الأهلة، ولا يعدل عنه إلا لضرورة، وهذه الضرورة مندفعة بتكميل الشهر الأول بالعدد، أو نقول: الأهلة أصل، ولا يعدل عن الأصل إلى البدل إلا مع تعذره، ولا تعذر إلا في الشهر الأول [10].
ونوقش:
أ - لا نسلم بالضرورة هنا.
ب - لا نسلم أن الشهر العددي ثلاثون.
قال ابن تيمية: وأيضاً فمن الذي جعل الشهر العددي ثلاثين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وخنس بإبهامه في الثالثة [11]. ونحن نعلم أن نصف شهور السنة يكون ثلاثين، ونصفها تسعة وعشرون ا.هـ. [12].
دليل القول الثاني:
أنه تعذر حساب السنة بمضي الشهر، إذ سينقص الشهر الأول والشهر الأخير، فعدل إلى تكميل العدد ثلاثين للضرورة.
ونوقش:
أ - أنه لا ضرورة هنا، إذ يمكن حسابه بالأهلة مع ذلك، بأن يحسب تاماً إن كان تاماً وناقصاً إن كان ناقصاً، ويكمل من الشهر الثالث عشر.
ب- لا نسلم أن الشهر العددي ثلاثون، بل الشهر إما ثلاثون أو تسعة وعشرون في عرف أهل الإسلام، وفي عرف النصارى يزيد إلى واحد وثلاثين [13].
أدلة القول الثالث:
1- قوله تعالى: ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾[14]، وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [15]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [16].
قال ابن تيمية: هذا العموم محفوظ عظيم القدر، لا يستثنى منه شيء ا.هـ.
وقال: فجعلها مواقيت لجميع الناس مع علمه سبحانه أن الذي يقع في أثناء الشهور أضعاف أضعاف ما يقع في أوائلها، فلو لم يكن ميقاتاً إلا لما يقع في أولها لما كانت ميقاتاً إلا لأقل من ثلث عشر أمور الناس ا.هـ. [17].
2- ومما استدل به ابن تيمية أن الشهر إذا كان ما بين الهلالين: فما بين الهلالين مثل ما بين نصف هذا ونصف هذا سواء، والتسوية معلومة بالاضطرار، والفرق تحكم محض [18].
3- أن الشهر في الشرع ثلاثون أو تسعة وعشرون، ولا يسلم أن الشهر العددي ثلاثون مطلقاً، بل نصف السنة ستة أشهر ثلاثون يوماً، ونصفها تسعة وعشرون، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين [19].
وقول المخالف: إن الشهر العددي ثلاثون ليس بأولى من قول من يقول واحد وثلاثون، وكلاهما قولان باطلان بلا برهان ولا دليل، وإنما هذا عند النصارى، أما أشهر المسلمين فهي أحياناً تكون ثلاثين وأحياناً تسعة وعشرين [20].
4- واحتج ابن تيمية بإجماع المسلمين العملي على ذلك فقال: والتفسير الثاني هو الصواب الذي عليه عمل المسلمين قديماً وحديثاً: أن الشهر الأول إن كان كاملاً كمل ثلاثين يوماً، وإن كان ناقصاً جعل تسعة وعشرين يوماً ا.هـ. [21].
وقال: وأيضاً فعامة المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم إذا أجل الحق إلى سنة، فإن كان مبدؤه هلال المحرم، كان منتهاه هلال المحرم، سلخ ذي الحجة عندهم. وإن كان مبدؤه عاشر المحرم كان منتهاه عاشر المحرم أيضاً، لا يعرف المسلمون غير ذلك، ولا يبنون إلا عليه، ومن أخذ ليزيد يوماً لنقصان الشهر الأول كان قد غير عليهم ما فطروا عليه من المعروف، وأتاهم بمنكر لا يعرفونه، فعلم أن هذا غلط ممن توهمه من الفقهاء، ونبهنا عليه ليحذر من الوقوع فيه ا.هـ. [22].
الترجيح:
والراجح - والله أعلم - هو القول الثالث:
1- لقوة أدلته ووجاهتها.
2- ضعف أدلة المخالفين ومناقشتها.
3- موافقته لصريح القرآن.
4- موافقته للأصل وهو أن الأصل الحساب بالأهلة، وهذا يسلم به المخالفون.
وسبب الخلاف: هو الخلاف في إثبات الضرورة أو التعذر في الحساب بالأهلة في الشهر الأول. فالمخالفون يقولون تعذر، وابن تيمية لا يسلم بذلك. والله أعلم.
----------------
(*) للاستزادة يراجع موقع الشيخ:
http://www.alukah.net/web/abdullah-ibn-mubarak/11511/83768
[1] انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 143-145)، الفتاوى الكبرى: (3/ 371)، الاختيارات: (153)، المستدرك: (4/ 53)، الإنصاف: (5/ 44).
[2] انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 143).
[3] انظر: مختلف الرواية لأبي الليث السمرقندي: ( 6/ 2720) تبيين الحقائق: (2/ 192)، (5/ 123)، (3/ 28)، شرح العناية: (9/ 95-96)، الجوهرة النيرة: (1/ 269)، شرح فتح القدير: (9/ 95)، مجمع الأنهر: (2/ 383)، حاشية ابن عابدين: (6/ 53).
[4] انظر: المدونة: (3/ 519)، حاشية الخرشي: (7/ 44)، حاشية الدسوقي: (4/ 44).
[5] انظر: روضة الطالبين: (5/ 197)، أسنى المطالب: (3/ 303)، شرح البهجة: (4/ 258)، حاشية قليوبي: (3/ 350)، تحفة المحتاج: (7/ 352)، نهاية المحتاج: (6/ 315)، (7/ 16)، حاشية الجمل: (4/ 217)، (4/ 444)، تحفة الحبيب: (4/ 50)، التجريد لنفع العبيد: (4/ 25).
[6] انظر: المغني: (8/ 7)، الفروع: (4/ 440)، المبدع: (5/ 86)، الإنصاف: (5/ 44)، شرح المنتهى: (2/ 364)، مطالب أولي النهى: (3/ 622)،وانظر حرمة المساكن في الفقه الإسلامي: (358).
[7] انظر: تبيين الحقائق: (5/ 123)، شرح العناية: (9/ 95)، الجوهرة النيرة: (1/ 269)، شرح فتح القدير: (9/ 95).
[8] انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 143)، المبدع: (5/ 86)، الإنصاف: (5/ 44).
[9] انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 143-144).
[10] انظر: تبيين الحقائق: (2/ 192)، (5/ 123)، شرح فتح القدير: (9/ 95)، المغني: (8/ 7)، المبدع: (5/ 86).
[11] صحيح البخاري: (4/ 119) كتاب الصوم (30) باب (11) حديث رقم (1907)، صحيح مسلم: ( 2/ 759) كتاب الصيام (13) باب (2) برقم (1080).
[12] مجموع الفتاوى: (25/ 145).
[13] انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 145).
[14] سورة البقرة: من الآية (189).
[15] سورة يونس: الآية ( 5 ).
[16] سورة الإسراء: آية ( 12 ).
[17] مجموع الفتاوى: (25/ 144-145)، وانظر: عقد الإجارة ومدى تدخل الدولة فيه: (81).
[18] انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 145).
[19] سبق تخريجه ص: (995).
[20] انظر: مجموع الفتاوى: (25/ 145).
[21] مجموع الفتاوى: (25/ 144).
[22] مجموع الفتاوى: (25/ 145).