الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فهذه دراسة حديثية للفظة: (سعيتُ قبل أن أطوف) بيَّنتُ فيه علةَ هذا اللفظ، أسأل الله تعالى أن ينفع بها. أخـرج أبو داود في سننـه (2015) وابن خزيمة في صحيحه (2774) والدارقطني في سننه (2/251) والطحاوي في المشكل (6015) والبيهقي في سننه الكبير (5/146) والفسوي في المعـرفة والتـاريخ (1/136) والطبراني في الكبير (472 -لكنه قَـرَنَ مع جريرٍ أسباطَ بن محمد، وستأتي الإشارة إلى ذلك) ومن طريقه الضياء في المختارة (1386، 1387) والفاكهي في أخبار مكة (2/212 "1377") من طرقٍ عن: جرير بن عبد الحميد عن أبي إسحاق الشيباني-سليمــان بن أبي سليمان- عن زيـاد بن عِلاقة عن أسامة بن شَريك رضي الله عنه قال: خرجتُ مع رسـول الله صلى الله عليه وسلم حاجـًا، وكان الناس يأتونه، فمن قائل يقول: يا رسولَ الله، سعيتُ قبلَ أن أطوفَ، أو أخَّرتُ شيئًا، أو قدَّمتُ شيئًا، فكان يقول: "لا حرجَ؛ لا حرجَ؛ إلا رجلٌ اقترضَ عِرْضَ رجل مسلم وهو ظالمٌ فذاك الذي حَرِجَ وهَـلَك" .
وهذا الحديثُ إسناده صحيح فيما يظهر، إلا أنَّ جماعةً من الثقات الحفَّاظ رووه عن زياد بن عِلاقة دون قول القائل: (سعيت قبل أن أطوفَ) كما أنه رُوي عن أبي إسحـاق الشيباني بدونها، وبيانُ ذلك: أنَّ هذا الحديث بهذا اللفظ جزءٌ من حديثٍ يتكوَّن من مقاطعَ عدة، فمن الرواة مَنْ رواه مطولاً، ومنهم مَنْ رواه مختصرًا، ولم يذكر أحدٌ منهم ما ذكره جرير عن أبي إسحاق الشيباني.
وقد أشار إلى أنَّ هذا الحديثَ جزءٌ من حديثٍ آخر -وسيأتي ذكره- الحافظُ ابن حجر رحمه الله في إتحاف المهرة (1/- 323-) وقبله أبو نعيم في معرفة الصحابة (1/- 226) وهو ظاهرُ تصرُّف الطبراني والحاكم. ومما يؤيد كون الحديث واحدًا أنَّ جملة: "إلا رجلٌ اقترض عِرْضَ رجل…" التي رواها جرير؛ قد رواها أكثرُ الرواة عن زياد بن علاقة، كما أنَّ بعض مسائل الحج جاءت في بعض روايات الحديث، كما سيأتي، وهذا يؤكد أنه حديث واحد.
فروى هذا الحديثَ أسباطُ بن محمد -وهو ثقـةٌ يخطئ في حديثه عن الثوري، كما قال ابن معين، يُنظر: تاريخ بغـداد (7/46)- عن أبي إسحـاق الشيباني عن زياد بن عِلاقـة عن أسامة بن شَريك قال :حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُئل عمن حلقَ قبل أن يذبحَ، أو ذبح قبل أن يحلقَ، فقال: "لا حرجَ" فلما أكثروا عليه، قال: "يا أيها الناس قد رُفع الحرجُ، إلا من اقترضَ من أخيه شيئًاظلمًا؛ فذلك الحرج".
أخرجه ابن أبي شيبة (14/177-) -ومن طريقـه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثـاني (3/141،5/130)- والطحاوي في شرح معاني الآثـار (2/236) والطبري في تهذيـب الآثار -مسند ابن عباس (374)-والخطيب في تاريخ بغداد (7/45) من طرقٍ عن أسباط بن محمد عن أبي إسحاق الشيباني بـه.
وليس في رواية أسباطٍ عند هـؤلاء: (سعـيتُ قبـل أن أطـوف). وروى الطبراني في الكبـير (472، وسبقت الإشارة إليه) ومن طريقه الضياء في المختارة (1386، 1387) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن أسباط بن محمد. ومن طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميـد. كلاهما (أسباط وجرير) عن الشيباني عن زياد عن أسامـة، وفيه: (سعيت قبـل أن أطوف).
وهذا الإسنادُ قَـرَنَ فيه الطبراني بين روايتي (جرير وأسباط) ولكنه لم يورد لفظَ أسبـاط، وإنما أوردَ لفـظ جرير، بدليـل أنَّ الراويَ عن أسباط عند الطبراني هو أبو بكر ابن أبي شيبة، وهو قد روى الحديثَ في المصنَّف عن أسباط، ومن طريقه الطبراني في الكبير (473) دون قول السائل: (سعيتُ قبل أن أطوف).
كما روى الحديثَ الطبريُّ عن سفيان بن وكيع، والطحاويُّ عن أحمد بن الحسين الكوفي، كلاهما (سفيان بن وكيع وأحمد بن الحسين) عن أسباط بـه.
ولم تُذكر هذه الجملة. وروى الحاكم في المستدرك من طريق أسباط بن نصر عن أبي إسحاق الشيباني عن زياد عن أسامة. وهذه الطريق أوردها الحاكم ضمن الطرق الأخرى ولم يَسُقْ لفظَها. وأسباطُ بن نصرٍ هذا يحتمل أنه غيرُ أسباط بن محمد الذي في سند ابن أبي شيبة والطحاوي والطبري، ويحتمل أن يكون هو؛ ويكون إسناد الحاكم مصحفًا.
وقـد ذكر الحافظ ابن حجر طريقَ الحاكم في الإتحاف (1/325) وفيـه (أسباط بن نصر) وهذا يؤيد المعنى الأول، فالله أعلم. وعلى كل حالٍ، فالحاكم لم يورد لفظَ أسباط بن نصر هـذا؛ حتى نعلم هل تابع جريرًا على جملة: (سعيت قبل أن أطوف) أم لا؟ هذا ما وقفتُ عليه من الطرق لهذا الحديث عن أبي إسحاق الشيباني.
ولم أجد في أيٍّ منها التصريح بالجملة المذكورة إلا لجرير بن عبد الحميد، وإن كان طريق الطبراني محتمِلاً، إلا أنَّ طـريقَ ابن أبي شيبة والطحاوي والطبري صريحٌ في عدم ذكرها. ويؤيد القولَ بتفـرُّد جريرٍ، أنَّ الإمام الدارقطني عندما روى الحديث في سننه قـال: (لم يقل: "سعيت قبل أن أطوف" إلا جرير عن الشيباني) وقال البيهقي: (هذا اللفظ غريبٌ، تفرَّد به جرير عن الشيباني…).
وفيما يلي ذكر أقـران أبي إسحاق الشيباني؛ الذين رووا هـذا الحديثَ عن زياد بن عـلاقة: فقد روى هذا الحديثَ عن زياد بن علاقةَ جماعةٌ، ولم يذكر أحدٌ منهم جملة (سعيت قبل أن أطوف) ومن هؤلاء: 1/ مسعر بن كدام. عند ابن أبي شيبة (8/514) والنسائي في سننه الكبير (7554) وابن حبان في صحيحه (478، 6064) والطبراني في الكبير(475) والحاكم في المستدرك (4/399).
2/ سفيان الثوري. عند ابن أبي شيبة في المصنف (8/514) وابن حبان في صحيحه (478،6064) والطبراني في الكبير (468، 470).
3/ شعبة بن الحجاج. عند أحمد في المسند (30/394- "18454") وأبي داود في سننه (3855) والنسائي في سننه الكبير (5875،5881، 7557) والطيالسي في مسنده (1232- 1233) والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/238) والحاكم في المستدرك (4/400) وأبي نعيم في المعرفة (1/ 226).
4/ أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليَشكري. عند البخاري في الأدب المفرد (291) والترمذي في جامعه (2038) والطبراني في الكبير (464) والحاكم في المستدرك (4/400).
5/ سفيان بن عيينة. عند الحميدي في مسنده (824) وابن أبي شيبة في المصنف (8/2) وابن ماجه في سننه (3436) وابن حبان في صحيحه (6061) والطبراني في الكبير (469) والحاكم في المستدرك (4/198،400).
6/ زهير بن معاوية، عند أبي القاسم في الجعديات (2/934 "2680") ومن طريقه البغوي في شرح السنـة (3226) والخطيب في الفقيه (2/111) والضياء في المختارة (1381) وكذلك رواه الطبراني في الكبير ( 467) .
7/ الأعمش. عند الطبراني في الكبير (474) والحاكم في المستدرك (4/198، 400).
8/ عثمان بن حكيم. عند ابن حبـان في صحيحه (486) والطبراني في الكبير (471) وفي الأوسط (6380) والحاكـم في المستدرك (4/400). 9/ المسعودي. عند أحمد (30/394 "18453") والطيالسي في مسنده (1232-1233) ومن طريقه أبو نعيم في المعرفة (1/ 226). وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1470) والطبراني في الكبير (486) والحاكم في المستدرك (4/198،400).
9/ محمد بن جُحادة. عند ابن خزيمة في صحيحه (2955) والطـبراني في الكبير (484) ومن طريقـه الضياء في المختارة (1389) والحاكم في المستدرك (4/400). وفي روايته ورواية محمد بن بشرٍ الآتية، ذكرٌ لبعض مسائل الحج.
10/ محمد بن بشر الأسلمي. عند الطبراني في الكبير (476) ومن طريقه الضياء في المختارة (1388).
11/ المطلب بن زيـاد. عند أحمد (30/ 398 "18455") والحاكم في المستدرك (4/198).
12/ الأجلح الكنـدي. عند أحمد (30/398- "18456") والطبراني في الكبير (478). وغيرهم؛ وقد أشار الحاكم إلى كثيرٍ منهم ولم يذكر ألفاظهم، وقال: (قد ذكرتُ من طرق هـذا الحديث أقلَّ من النصف) (4/400)، وأشار إلى نحو هذا أبو نُعيم في المعرفة (1/226).
وهؤلاء الرواة منهم مَنْ روى الحديث مطوَّلاً، ومنهم مَنْ اختصره: فممن رواه مطـوَّلاً الإمام أحمد في مسنده عن غندر عن شعبة عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنده كأنما على رؤوسهم الطير، فسلَّمتُ عليه، وقعدت، قال: فجاءت الأعراب، فسألوه فقالوا: يا رسول الله، نتداوى؟ قال: "نعم، تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواءً، غير داء واحد؛ الهَرم".
قال: وكان أسامة حين كبر يقول: هل ترون لي من دواءٍ الآن! قال: وسألوه عن أشياء، هل علينا حرجٌ في كذا وكذا؟ قال: "عباد الله، وضع الله الحرجَ، إلا امرأ اقترضَ امرأ مسلمًا ظلمًا، فذلك حَرِجَ وهلَك".
قالوا: ما خير ما أُعطي الناس يا رسول الله؟ قال: "خلقٌ حسن".
هذا لفظ شعبة من طريق غندر عنه، ونحوه لفظ أبي عوانة الوضَّاح عند البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير، وسفيان بن عيينة عند ابن ماجه وابن حبان وغيرهمـا، وكذلك زهير بن معاوية؛ كما في الجعديات، وغيرُهم. وبعض الرواة اختصر الحديثَ، فذكرَ بعضَ مقاطعه دون بعض.
وبناءً على ما سبق؛ فتفرُّد جرير عن الشيباني عن زياد بهذه الجملة يحتمل أمرين: أحدهما/ أن يقال: هذا تفردٌ من ثقةٍ فيُقبل، ويتأيد ذلك بكون هذا الحديث قد اشتمل على عدة مقاطع، فلا يَبْعُد أن يتفرَّد أحد الرواة ببعضها.
ثانيهما/ أن يقال: هذا التفرُّد من جريرٍ غيرُ مقبول، وذلك أنَّ عامـةَ الرواة عن زيـاد -ومنهم ثقات حفاظ-لم يذكروا هذه الجملة، ويَبْعُد أن يتفقوا على عدم ذكرها، كما أنَّ الحديث قد روي عن زياد نفسه بدونها. يضاف إلى ذلك أنَّ هذه الجملة لم تَرد في كافة الأحاديث الواردة فيمن قدَّم شيئًا من نسكه.
والوجهان محتمِلان، إلا أنَّ الذي يترجح لي شذوذ هذه اللفظة. وممن صحح حديث (سعيت قبل أن أطوف): ابن خزيمة، فقد أخرجه في صحيحه، وقال ابن جماعة: (إسناده صحيح) هداية السالك (2/ 892)، وكذلك النووي في المجموع (8/105). وممن ضعفه ابن القيِّم، حيث قال: (وقوله "سعيت قبل أن أطوف" ليس بمحفوظ، والمحفوظُ تقديم الرمي والنحر والحلق، بعضها على بعض) زاد المعاد (2/259).
وهذا البحث هو من الناحية الحديثية، وأما الجانب الفقهي فله بحث آخر، ولا يلزم من تضعيف الحديث عـدمُ القول بموجَبه، ففي المسألة حديث صحيح، وهو حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: (فما سُئل عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر؛ إلا قال: افعل ولا حرج) على النزاع في صحة دلالته على هذه المسألة. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
فائدة: إذا قدَّم الحاجُّ السعيَ على الطواف مطلقًا، بحيث سعى سَعْيًا لم يتَقدَّمْه طوافٌ؛ ففي صحة سعيه خمسة أقوال، حرصتُ على جمعها وتتبُّعها قدر الاستطاعة:
1/ فجماهير أهل العلم على عدم جواز تقديم السعي على الطواف في هذه الصورة، وجعلوا الترتيب بينهما شرطًا.
2/ وخالف جماعةٌ فأجازوا ذلك مطلقًا، روي عن عطاء والأوزاعي وهو رواية عن أحمـد، ونسبه ابن المنذر لبعض أهل الحديث، وقال به ابن جرير الطبري وابن حزم، وقال النووي: (حكاه أصحابنا عن داود) وهو ظاهر تبويب أبي داود في السنن، وحُكي وجهًاعند الشافعية، وردَّه النووي.
3/ ومن أهل العلم مَنْ عَذَرَ الناسي والجاهل دون العامد، وهذا القول رواية عن أحمد، وقال به ابن خزيمة، وقواه ابن دقيق العيد.
4/ ومنهم مَنْ قال: طوافه وسعيه مجزئان، وعليه دمٌ لإخلاله بالترتيب، وهؤلاء جعلوا الترتيب واجبًا، وهو روايةٌ عن أحمد.
5/ والمشهور عند الحنفية أنه يجزئ بعد أكثر الطواف.