إعطاء الجندي من الزكاة
10 ذو القعدة 1436
د. عبدالعزيز بن سعود عرب

إعطاء الجندي من الزكاة (*)
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
فلقد تولى الله سبحانه وتعالى بنفسه بيان مصارف الزكاة في كتابه العزيز بقوله:"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"(1)
ففرض الله عز وجل الزكاة لهؤلاء الأصناف الثمانية وأوجبها لهم، ومن هذه الأصناف مصرف (في سبيل الله)؛ والحديث عن هذا المصرف سيكون في مسألتين:
المسألة الأولى: معنى في سبيل الله(2):
اتفق جمهور فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن المقصود في سبيل الله في الآية هو: الجهاد في سبيل الله (3)، (4)، قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله: وأما قوله "وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ"(5) فإنه يعني: و في النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار"(6).
فيعطى المجاهدون والغازون في سبيل الله والمرابطون على الثغور من الزكاة بدلالة الآية؛ ولكن هل يشترط فيهم وصف الفقر أم لا؟
قال الشوكاني رحمه الله:"هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء"(7)، فاختلف الفقهاء في هذا على قولين:
القول الأول:
لا يشترط وصف الفقر فيهم؛ فيعطون من الزكاة أغنياء كانوا أم فقراء.
وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة(8).
القول الثاني:
لا يعطى إلا للفقراء منهم خاصة.
وهو مذهب الحنفية (9).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل جمهور الفقهاء بما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني"(10).
وجه الدلالة:
قال ابن عبد البر رحمه الله:"وظاهر هذا الخبر يقتضي أن الصدقة تحل لهؤلاء الخمسة في حال غناهم"(11)، وقال أيضاً رحمه الله: "وأجمع العلماء أن الصدقة المفروضة لا تحل لأحد من الأغنياء غير من ذكر في هذا الحديث من الخمسة الموصوفين فيه"(12).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" (13).
وجه الدلالة:
يمكن أن يقال في دلالة هذا الحديث: أنه نص على أن الصدقة لا تحل للأغنياء، وبدلالة عموم النص فإن الغازي والمجاهد في سبيل الله إذا كان غنياً فإن الصدقة لا تحل له.
المناقشة:
يناقش هذا الاستدلال: بأن هذا الحديث عام، ولكنه مخصوص بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الصحيح وفيه: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله...) فالصدقة لا تحل للأغنياء عموماً إلا لهؤلاء الخمسة المذكورين في الحديث – والله أعلم –(14).
الدليل الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بحديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له: (... فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم... ) (15).
وجه الدلالة:
جاء في بدائع الصنائع في دلالة هذا الحديث: أنه "جعل الناس قسمين، قسماً يؤخذ منهم، وقسماً يصرف إليهم، فلو جاز صرف الصدقة إلى الغني لبطلت القسمة وهذا لا يجوز "(16).
المناقشة:
يمكن أن يناقش استدلال الحنفية بهذا الحديث على تقييد الغازي في سبيل الله بالفقر: أن هذا نقض لأصول المذهب عندهم، قال ابن العربي رحمه الله: "وهذه زيادة على النص، وعنده [أي أبو حنيفة] الزيادة على النص نسخ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر"(17).
هذا من وجه؛ ومن وجه آخر: أن في هذا الحديث تقرير لحق الفقراء والمساكين وتوكيداً له قال ابن عبد البر رحمه الله، "ولو لم يجز أخذها إلا مع الحاجة والفقر لما كان للاستثناء وجه (إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري المتقدم)، لأن الله قد أباحها للفقراء والمساكين إباحة مطلقة، وحق الاستثناء مخرجاً من الجملة ما دخل في عمومها، هذا هو الوجه – والله أعلم –"(18).
الترجيح:
الذي يترجح -والله أعلم -هو قول جمهور الفقهاء القائل بأن مصرف (في سبيل الله) يعطى للمجاهدين والغزاة أغنياء كانوا أم فقراء، وذلك لقوة الأدلة التي استدلوا بها، وهو موافق لعموم آية الزكاة ومنطوق خبر أبي سعيد رضي الله عنه.

وبناء على ما ترجح فإنه يتفرع لنا مسألة وهي: إذا كان هؤلاء المجاهدون والغزاة أو المرابطون على الثغور يتقاضون مرتباً من بيت مال المسلمين، أو يأخذون رزقاً من ديوان الجند نظير عملهم هذا الذي يقومون به فهل يشملهم هذا الحكم ؟
الجواب على هذه المسألة هو المسألة الثانية:

المسألة الثانية: حكم إعطاء المجاهدين أو المرابطين الذين يتقاضون عطاءً من بيت مال المسلمين لأجل ذلك من الزكاة:
لا خلاف بين الفقهاء في أن المجاهدين والغزاة والمرابطين الذين ليسوا من أهل الديوان ولا يتقاضون مرتباً من بيت مال المسلمين مقابل عملهم هذا أنهم داخلون في معنى قوله تعالى :"فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(19)، قال ابن كثير رحمه الله: "وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان"(20)، وأما إذا كانوا مرتزقة يأخذون من بيت مال المسلمين أو الديوان وتجرى لهم مكافآت ورواتب فإنهم لا يعطون من هذا المصرف باتفاق الفقهاء، وبيان هذا من مذاهب الفقهاء على النحو الآتي:
أ – الحنفية:
أما الحنفية فإن مذهبهم في الأصل أن الزكاة لا تصرف إلا على منقطع الغزاة وفقرائهم -كما تقرر في المسألة الأولى – فجاء في متن الهداية قوله: "وفي سبيل الله منقطع الغزاة "(21)، فإذا كان المجاهد أو المرابط يتقاضى مرتباً من الديوان فمن باب أولى لا تصرف له الزكاة.
ب – المالكية:
لم أجد لفقهاء المالكية رحمهم الله فيما اطلعت عليه من مصادرهم كلاماً حول هذه المسألة إلا ما نقله الزيلعي رحمه الله عنهم في تبيين الحقائق حيث يقول: "وقال مالك والشافعي: يجوز دفعها إلى غني الغزاة إذا لم يكن له شيء في الديوان، ولم يكن يأخذ من الفيء... "(22)، وأيضاً ما عزاه إليهم النووي رحمه الله بقوله: "ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله "(23).
ج – الشافعية:
قال العمراني رحمه الله: "وسبيل الله عندنا: هم المجاهدون الذين يغزون إذا نشطوا، دون المرتزقة المرتبين في ديوان السلطان، وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما "(24)، وقال النووي رحمه الله: "وأما الغزاة المرتبون في ديوان السلطان ولهم فيه حق فلا يعطون من الزكاة بسبب الغزو بلا خلاف، وإن كان فيهم وصف آخر يستحقون به أعطوا به ؛ بأن يكون غارماً وابن السبيل... "(25).
د - الحنابلة:
قال الحجاوي رحمه الله: "في سبيل الله: وهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم ولو مع غناهم... ويتمم لمن أخذ من الديوان دون كفايته من الزكاة "(26)، وقال ابن قدامة رحمه الله: "في سبيل الله: وهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان إذا نشطوا غزو، يعطون قدر ما يحتاجون إليه لغزوهم، من نفقة طريقهم وإقامتهم، وثمن السلاح والخيل إن كانوا فرساناً... ولا يعطى الراتب في الديوان، لأنه يأخذ قدر كفايته من الفيء"(27).
ومن هذه النقولات يتبين أن الجندي المجاهد أو المرابط إذا كان يأخذ عطاءً أو مرتباً من ديوان الجند أو بيت مال المسلمين، ويكفيه في غزوه وجهاده فإنه لا يأخذ من مصرف (في سبيل الله).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "(وفي سبيل الله) هم الغزاة الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم، فيعطون ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به، من خيل وسلاح ونفقة وأجرة... "(28)، وقال الشنقيطي رحمه الله: "لا خلاف بين العلماء أن الغزاة الذين ليسوا في الديوان داخلون في سبيل الله.
وإيضاح هذا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جعل مسألة الديوان كتب أسماء الجند في ديوان قيد أسماءهم فيه، وكل قطر من الأقطار عدد ما فيه من المقاتلة وكتبهم في ديوان ليحفظوا الثغور ويعينوا على الجهاد، وكانت لهم أرزاق معروفة في بيت مال المسلمين، وهؤلاء إذا قتل واحد منهم عقل عنه الآخرون قبل عصبته، فهؤلاء قال العلماء: ليسوا هم المراد هنا، لأن لهم أرزاقاً من بيت مال المسلمين وهم مدوّنون معروفون، وأن المراد بهؤلاء الغزاة: هم الذين يتطوعون ليقاتلوا ويسدوا الثغور مع المسلمين، مع أنهم لم تكن لهم أرزاق مكتوبة، ولم يكونوا مكتوبين في الديوان، فهؤلاء يعطون من زكاة المسلمين وإن كانوا أغنياء، ويعطون ما يشترون به السلاح والمراكب ليسدوا ثغور المسلمين فيجاهدوا في سبيل الله "(29). وذهب إلى هذا القول أعضاء هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية(30).
وبعد عرض هذه المسألة نستخلص منها ما يلي:
1- أن المقصود من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة "وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ "(31): الجهاد والغزو في سبيل الله لإعلاء كلمة التوحيد ورفع رايتها، وإن وسع هذا المعنى طائفة من العلماء.
2- أن الغازين والمرابطين في سبيل الله يعطون من الزكاة فقراءً كانوا أم أغنياء.
3- أن مصرف في سبيل الله يصرف على الغزاة والمرابطين المتطوعين الذين ليس لهم رزق من الديوان، أو لم يكن لهم مرتبات ومخصصات من بيت مال المسلمين.
4- الغزاة و المرابطون الذين يصرف لهم مرتب من بيت مال المسلمين أو كان لهم شيء في الديوان، وكان فيهم وصف آخر من أوصاف أهل الزكاة غير وصف (في سبيل الله) فإنهم يعطون منها لأجل ذلك الوصف كالفقراء والغارمين ونحو ذلك.
5- إذا كان يعطى هؤلاء الغزاة والمرابطون من بيت مال المسلمين أو من الديوان دون كفايتهم في الغزو وما يلحق به من أعمال فإنه يتمم لهم من الزكاة حتى كفايتهم.
6- أن الجندي المسلم في هذا الوقت إذا كان في جيش نظامي فإنه لا يعطى من الزكاة من مصرف (في سبيل الله) إلا إذا كان فيه وصف آخر من أوصاف أهل الزكاة، وذلك لأنه يأخذ مرتباً من الدولة نظير قيامه بهذا العمل – والله أعلم –.
----------
(*) مجلة الجدي المسلم العدد (131)
(1) سورة التوبة ؛ آية : 60 .
(2) السبيل في اللغة يطلق على معاني عدة من أشهرها : الطريق والسبب والوصلة ، وإذا أضيف لفظ الجلالة إلى السبيل يقصد به : كل ما أمر الله به من الخير، واستعماله في الجهاد أكثر.
انظر : القاموس المحيط للفيروز آبادي : ص 782؛ مادة [ سبل ] ، المعجم الوسيط :1/415 ؛ مادة [ أسبلت ].
(3) انظر : تبين الحقائق للزيلعي : 2/115 – 116 ، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي : 2/108 ، روضة الطالبين للنووي : 2/183 – 184 ، شرح منتهى الإرادات للبهوتي : 2/317 .
(4) وسّع بعض العلماء مدلول هذا المصرف ، فهناك قول عند بعض فقهاء الحنفية مفاده : أن في سبيل الله عبارة عن جميع القرب ؛ فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله إذا كان محتاجاً ، وهناك رواية عند الحنابلة فيها : أن الحج من سبيل الله ، ورأى بعض العلماء المعاصرين أن صور الجهاد في سبيل الله لا تقتصر على المعنى العسكري فحسب بل قد يكون الجهاد باللسان أو بالقلم وقد يكون الجهاد في الميدان الفكري والتربوي ونحو ذلك ، وبعض هؤلاء العلماء جوز صرفه في وجوه البر.
انظر : بدائع الصنائع للكاساني : 2/155 ، الكافي لابن قدامة : 2/201 ، فقه الزكاة للدكتور/ يوسف القرضاوي : 2/657 ، حكم صرف الزكاة في وجوه البر للدكتور/ أحمد السهلي : ص 155-164 .
(5) سورة التوبة ؛ آية : 60 .
(6) جامع البيان للطبري : 6/10/165 .
(7) فتح القدير للشوكاني :2/532 .
(8) انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 4/8/185 ، البيان للعمراني : 3/427 ، الإقناع للحجاوي : 1/296 .
(9) انظر : البناية في شرح الهداية للعيني : 3/534 ، حاشية ابن عابدين : 3/289 .
(10) رواه أبو داود برقم : [ 1636 ] ؛ واللفظ له ، ورواه ابن ماجه برقم :[ 1841 ] ، وصححه الألباني في إرواء الغليل : 3/377 .
(11) التمهيد لابن عبد البر : 7/65 .
(12) المرجع السابق : 7/62 .
(13) رواه النسائي برقم [ 2434 ] ، وصححه الحاكم في المستدرك 1/407 وقال : على شرط الشيخين ولم يخرجاه ؛ ووافقه الذهبي ، وللحديث طريق آخر من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنه رواها أبو داود برقم : [1634] ، ورواها الترمذي أيضاً برقم : [52] وقال : "حديث حسن " .
وقد صحح كلا الحديثين ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ) الألباني في إرواء الغليل 3/981 – 385 .
(14) انظر : التمهيد لابن عبد البر : 7/62 .
(15) رواه البخاري برقم : [ 1496 ] ، ورواه مسلم برقم : [19] .
(16) بدائع الصنائع للكاساني : 2/155 .
(17) الجامع لأحكام القرآن لابن العربي : 2/435 .
(18) التمهيد لابن عبد البر : 7/65 .
(19) سورة التوبة ؛ آية : 60 .
(20) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 2/380 .
(21) الهداية للمرغيناني مع شرحها البناية للعيني :3/534 .
(22) تبين الحقائق للزيلعي : 2/124 .
(23) المجموع للنووي : 6/128 .
(24) البيان للعمراني : 3/426 .
(25) المجموع للنووي : 6/129 .
(26) الإقناع للحجاوي : 1/296 .
(27) الكافي لابن قدامة : 2/201 .
(28) السياسة الشرعية لابن تيمية : ص 32 .
(29) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير لمحمد الأمين الشنقيطي : 5/595 .
(30) انظر : فتاوى اللجنة الدائمة ؛ جمع / أحمد الدويش : 10/39 – 40 ، فتوى رقم : 2909 .
(31) سورة التوبة ؛ آية : 60 .