رحم الله الشيخ أبازيد رجل الدعوة وأسد التوحيد
25 رجب 1436
علي الشايب

الحمد لله الذي كتب على كل شيء الفناء والممات وتفرد بالبقاء والحياة...
والصلاة والسلام على مَن خُيِّر بين البقاء في الدنيا والانتقال منها فاختار الموافاة...

وبعد.... فقد رحل شيخ الدعوة وأسد التوحيد-كما يسميه بعض محبيه-، ومربي اﻷجيال في السودان، بعد عمر مديد وعمل رشيد، بعدما أضاءت دعوته اﻵفاق، وبلغت صيحاته بكلمة الحق الفيافي والأصقاع، وسارت بسيرته الحافلة الركبان في كل مكان من أرض السودان، وأحيت كلماته قلوبا ميتة، وأروت دعوته أرضا جدباء بقحط الجهل والبدع فصارت طيبة، وأضاءت جوﻻته الدعوية دجى الجهل وبددت ظلام الشرك...

 

إن رحيل هذا العلم البارز لمصيبة كبيرة والموت كله مصيبة كما سماه ربنا في كتابه، وتعظم المصائب بعظم المصاب،،،، وفقد أئمة العلم ورجال الدعوة رزية وثلمة في الإسلام وانتقاص للأرض من أطرفها...

 

لعمرك ما الرزية فقد مال *** وﻻ شاة تموت وﻻ بعير
ولكن الرزية فقد عالم *** يموت بموته خلق كثير..
إذا ما مات ذو علم وتقوى *** فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
فما كان هلكه هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدنا

 

إن أهل السودان ومنابر العلم ومحافل الدعوة وطلاب العلم وجماعة أنصار السنة إذ يودعونه ليستودعونه الله الذي ﻻ تضيع ودائعه، ويرجون له منقلبا كريما وموئلاً حسنا وعاقبة حميدة... فالظن بربنا الكريم أن يكرم نزله ويجزل عطاءه ويحسن جزاءه،،، بعد عمر طويل حافل بالدعوة إلى الله، والدﻻلة على دينه الحق ومكافحة الباطل وأهله...

 

ويرجى له أن يكون قد تحققت فيه البشارة النبوية في أن خير الناس (...من طال عمره وحسن عمله) رواه الترمذي وحسنه.

 

ولئن انتقل أبو زيد عن الدنيا وفقدته منابر العلم وغاب عن حلق الدعوة فإن اﻷمل في دعوته التي شاد صرحها وقافلته التي قاد سيرها أن تستمر في السير على الطريق ذاته مترسمة خطاه التي رسمها...

 

فهي ككلمة طيبة انطلقت، وشجرة طيبة امتدت وأثمرت، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها...

 

والذي غاب عن اﻷنظار هو الشيخ أبو زيد بشخصه أما دعوته فباقية وآثاره ممتدة ونفعه مستمر بقدر ما قدم من تعليم وتوجيه ودعوة ورثها ﻷجيال متعاقبة... وهذا من أحسن العزاء فيه...

 

إن الكلام عن سيرة وجهود الشيخ أبي زيد في تبليغ الدعوة وأثره على مجتمعه وجماعته ﻻ تستوعبه إﻻ المجلدات لكن حسبي اﻹشارة إلى هذه اللمحات البارزة في سيرته الدعوية ومسيرته العملية وهي مما يحسن التذكير به والتأمل فيه بعد رحيله...

 

1-الثبات على طريقة واحدة في الدعوة لمدة تجاوزت نصف قرن من الزمان، وعدم التأثر بالصوارف والطوارئ التي صرفت بعض الناس إلى صراعات حزبية أو مجموعات متناحرة، أوالسعي وراء مكاسب ومصالح مادية وسياسية، على حساب الدعوة...

 

لم يتأثر الشيخ بتلك الصوارف، ولم يغره بهرجها ولم يلتفت إليها،،،، ولم يستطع أحد أن يجره إلى تلك المعارك الجانبية التي قعدت ببعض الدعاة وصرفتهم عن اﻷهم إلى فضول وترف علمي وجدل فكري بدد جهودهم وقصر بهم عن اللحاق بركب الدعاة المؤثرين...

 

فكل محاوﻻت من حاول من المتأثرين بالتصنيف بالظن الساعين بالشقاق والقطيعة بين أبناء الدعوة الواحدة باءت بالفشل، فلم يظفروا منه بكلمة تأييد لتهريجهم الذي سموه نقدا وإصلاحاً، ولم يحظوا منه بسطر واحد لتقريظ كتاب ينصرون به مناكفتهم الجائرة للمصلحين،،،، واستمر الشيخ متعاونا على البر والتقوى مع إخوانه وأبنائه الدعاة داخل جماعته وخارجها، سليم القلب تجاههم مثنيا على كل من يستحق الثناء منهم معترفا بالفضل لأهله، ذاكرا له بلسانه...

 

2-كان حريصا على وحدة الصف الدعوي وجمع كلمة أهل الدعوة، غير راض بما يراه من انقسام في الجماعة وخروج عليها ﻻ عنها... سمعته مرة يقول متحسرا: كانت أنصار السنة جماعة واحدة فأصبحت اﻵن خمس جماعات أو كلمة نحوها.... وكان إبان وفاة الشيخ الهدية من أكثر الناس تأثرا وأشدهم عليه بكاء...

 

3-دأب مستمر في الدعوة مع كبر السن وتقدم العمر ووجود عوارض المرض... وهو  من دﻻئل الإخلاص وعلامات التوفيق... فيرجى له أن يكون ممن تحققت فيهم البشارة النبوية الواردة في مسند اﻹمام أحمد وجامع الترمذي ومستدرك الحاكم من حديث أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله) قالوا كيف يستعمله ؟قال (يوفقه لعمل صالح قبل موته) وكما قيل في المعنى السائر: من عاش على شيء مات عليه، ومن شب على شيء شاب عليه...

 

4-تواصله الدعوي مع إخوانه في داخل البلاد وخارجها، فكم مرة استضاف شيخا وداعية من خارج البلاد يبتغي نفع العباد، وكم مرة شارك إخوانه من الدعاة ممن هم خارج إطار الجماعة وساهم معهم في نشر الخير، وكم مرة خرج داعية على شاشات القنوات الدعوية التي يقوم عليها بعض الدعاة من غير الجماعة؟...

 

ولما سعى بعض الشببة بالشغب على بعض الدعاة والسعي بتشويه سيرهم والتشكيك في مناهجهم ونشر اﻷكاذيب عنهم، مع تظاهر أولئك الشباب بموافقة الشيخ واﻻنتماء لجماعته: تصدى لهم بكل صرامة وعاملهم بنقيض أفعالهم وقصدهم واستمر متعاونا ومزكيا لمن قدح فيهم أولئك الشببة سواء من داخل البلاد أو من خارجها حتى ضاقت على أولئك الشببة ساحة الجماعة بما رحبت وخرجت بهم تصرفاتهم عن خطها المستقيم فاعتزلوها وهجروها، وواصل الشيخ مسيرته لم يضره خروج من خرج وﻻ تأخر من تخلف وﻻ قدح من قدح.

 

5-وضوح الرؤية وبساطة الطرح...اتسم أسلوب الشيخ بالوضوح ...فربما تحدث بالعامية السودانية الصرفة إن كان المقام يقتضي ذلك... وربما تحدث بالعربية الفصحى بصوته الجهوري الذي يهز المنابر...
كما اتسم أسلوبه بتناول المسائل الواضحة في العقيدة من غير تعقيد في اﻷسلوب وﻻ تعميق للمسائل وﻻ إثارة  لمواطن النزاع والخلاف الذي انشغل به بعض الدعاة وطلبة العلم المعاصرين...

 

6- سلامة القلب وحب الخير والنجاح لجميع الدعاة ﻻ فرق بين من كان منتظما في الجماعة ومن كان مستقلاً عنها، يظهر ذلك جليا في مواقف ﻻ تخفى،،، فحين يصله من بعض الحسدة والوشاة ما يعكر الصفو ويشوه سيرة داعية فإنه يجهر بالثناء عليه والدفاع عنه وذكر ما له من محاسن ونفع للأمة وهذا ﻻ يكاد يفعله إﻻ من سلم قلبه تجاه المؤمنين.

 

7-البعد عن الشقاق والنزاع السلفي، وذلك بعدم التحيز ﻷي طرف من المتحزبين المتناحرين وﻻ دخول في حلبة المتصارعين، بل فتح الباب ومد اليد لكل المتعاونين...

 

وأخيرا

أختم بوصايا أراها مهمة

1-امتدت تجربة الشيخ الدعوية ﻷكثر من نصف قرن من الزمان وهي ثرية بقصص النجاح، والمواقف المؤثرة، والتجارب المفيدة والوسائل النافعة، والطرق الناجحة، فحري بطلابه تتبع هذه المسيرة الطويلة وإجراء دراسات وأبحاث حولها للإفادة والاستفادة منها...

 

2-اﻻستفادة من منهجه في التعامل مع الدعاة وعلاقته بمن هم خارج إطار الجماعة التنظيمي، ومن يختلفون معها في قليل أو كثير.

 

3-جمع آثاره المسموعة والمقروءة والمرئية؛ للانتفاع والنفع بها؛ ولتكون سببا لجريان عمله الصالح واستمرار علمه الذي بثه ونشره...

 

4-ترسيخ مبدأ التعاون مع كل العاملين في حقل الدعوة بغض النظر عن مسمياتهم التنظيمية ما دامت دعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة بالمفهوم العام... وقد كانت كذلك  سيرة الشيخ ومسيرته الدعوية...
فالمؤتمر الذي خصص لكشف حال الشيعة وسبل مواجهتهم حشدت له الطاقات الدعوية من دون اعتبار للانتماءات والمسميات الخاصة... وهو تصرف يدل على سعة أفق وبعد نظر وتغليب لمصلحة الدعوة على اﻻعتبارات الخاصة...

 

5-ترك الشيخ حملاً ثقيلاً وفجوة كبيرة وثغرة واسعة واﻷمل في أبنائه وطلابه كبير في ملء الفراغ وسد الحاجة والقيام بالواجب واستكمال المسيرة، وكان الشيخ قدوة وإماما تجتمع حوله القلوب، فليكن خلفاؤه من بعده أشد حرصاً على استمرار المسيرة على نفس السيرة، ولتكن لديهم مبادرات لقطع أسباب النزاع، أملاً في عودة الجماعة إلى سيرتها اﻷولى ووحدة كلمتها ولم شملها ورص صفوفها من جديد؛ فهي اليوم أحوج إلى اﻻجتماع واﻷلفة أكثر من أي وقت آخر...

 

جبر الله مصاب اﻷمة فيه وجعل البركة والخير في ذريته ووفق خلفاءه من بعده بتوفيقه وأمدهم بعونه وتسديده.
والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله.