الوقوف للسلام على الغير
14 ربيع الأول 1436
د. نايف بن جمعان الجريدان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من المسائل التي تأخذ حيزا من أحاديث الناس في المجالس –أحيانا- مسألة حكم الوقوف عندما يدخل أحدهم إلى المجلس ويبدأ بالسلام مصافحة، وقد أجاب عن هذه المسألة تحديدا شيخ الإسلام ابن تيمية إجابة مفصلة مبنية على الأدلة الشرعية، قال رحمه الله تعالى: (لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام، كما يفعله كثير من الناس، بل قال أنس بن مالك : (لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له) (1).
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة(2).
وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: قوموا إلى سيدكم وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه.
وينبغي للمطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار"(3).
فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا من مرضه وصلوا قياما أمرهم بالقعود وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود(4).
وجماع ذلك كله الذي يصلح، اتباع عادات السلف وأخلاقهم والاجتهاد عليه بحسب الإمكان.
فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما)" (5).

وورد أيضا في الصحيحين في قصة كعب بن مالك لما تاب الله عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهم جميعا، وفيه أن كعبا لما دخل المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله يهرول فسلم عليه وهنأه بالتوبة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم(6). فدل ذلك على جواز القيام لمقابلة الداخل ومصافحته والسلام عليه.
ومن ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل على ابنته فاطمة قامت إليه وأخذت بيده وأجلسته مكانها، وإذا دخلت عليه قام إليها وأخذ بيدها وأجلسها مكانه(7).
ونقل العيني رحمه الله في شرح البخاري عن أبي الوليد ابن رشد أن القيام على أربعة أوجه:‏
‏الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه.‏
الثاني: مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر، ولكن يخشى أن يدخله بسبب ذلك ما يحذر، ‏ولما فيه من التشبه بالجبابرة.
‏الثالث: جائز، وهو أن يقع على سبيل البر لمن لا يريد ذلك، ويأمن معه التشبه ‏بالجبابرة.‏
الرابع: مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من ‏تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها(8). ‏
ونقل المباركفوري في التحفة(9) قول الغزالي رحمه الله: " القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل البر والإكرام لا يكره"، قال ابن حجر رحمه الله: "هذا تفصيل حسن"(10).
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة هذا نصه(11):
س: رجلان جالسان إذ طلع عليهما رجل ذو أثر بالغ أو شيخهما الكبير ، فهل يجوز القيام إليه سواء كان تعظيما أو تكريما أو تأليفا لقلبه؟
الرجاء منكم التوضيح بالأدلة من القرآن والسنة والكتب الفقهية المعتبرة .
ج: يجوز القيام من أجل السلام على الشخص القادم إلى المجلس أو المار به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة، ولأن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قام إلى كعب بن مالك من حلقة النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل كعب يريد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليه وعلى صاحبيه، فصافحه وهنأه بالتوبة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم لابنته فاطمة إذا دخلت عليه ويأخذ بيدها ويقبلها ويجلسها مكانه، وكانت إذا دخل عليها صلى الله عليه وسلم تقوم إليه وتأخذ بيده وتقبله أما القيام من أجل التعظيم أو الاحترام فقط لا من أجل السلام فلا يجوز؛ لحديث: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار"(12).
---------
(1) الترمذي (5 / 90).
(2) الإمام مالك كما في [التمهيد] (12 / 52)، والحاكم (3 / 241)، وأعله الذهبي بالانقطاع. البخاري (7 / 135)، و [مسلم بشرح النووي] (12 / 92)، وأبو داود (5 / 390، 391)
(3) أبو داود (5 / 398)، والترمذي (5 / 90).
(4) كما في [ صحيح مسلم ] [مسلم بشرح النووي] (4 / 133)، وأبو داود (5 / 398)، وابن ماجه (2 / 1261).
(5) انظر [الفتاوى] (1 / 374) وما بعدها. انتهى كلام شيخ الإسلام.
(6) البخاري (5 / 130) و[مسلم بشرح النووي] (17 / 87).
(7) أبو داود (5 / 391)، والترمذي (5 / 70).
(8) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 22/ 252.
(9) تحفة الأحوذي 8/ 27
(10) فتح الباري لابن حجر 11/ 54
(11) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 24 / ص 387) السؤال الثاني من الفتوى رقم ( 17902 )
(12) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح .