الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن النجش ليس في حد ذاته بيعًا؛ وإنما هو فعل من الأفعال التي تدخل في المبايعات، وهو في اللغة: الإثارة، أو هو تنفير الطائر والصيد من مكانه ليصاد(1). وأصل النجش: الاستتار؛ لأن الناجش يستر قصده، ومنه يقال للصائد: ناجش لاستتاره(2).
وفي الاصطلاح: بأن يزيد الرجل في الثمن ولا يريد الشراء، ليرغب غيره. أو أن يمدح المبيع بما ليس فيه ليروجه(3). أي: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها.
وهو فعل محظور في قول جماهير أهل العلم، وقال الشافعي: "النجش خديعة، وليس من أخلاق أهل الدين"(4).
وقد ذكر الفقهاء أن وقوع النجش له عدة حالات أبرزها:
1. وقوعه بدون علم البائع، فيكون الإثم مختصا به.
2. وقد يكون بفعل البائع نفسه، حيث لا يعلم السائم أنه مالك السلعة، وعند ذلك يختص الإثم به.
3. وقد يحصل بفعل الناجش بمواطأة البائع، فيشتركان في الإثم(5).
فإذا وقع النجش بمواطأة البائع، واغتر السائم بالناجش فابتاع ثم علم بالخديعة فقد اختلف الفقهاء في حكم البيع من حيث الصحة واللزوم على ثلاثة أقوال(6):
القول الأول:
أن البيع صحيح لا زم، وهو قول الحنفية والشافعية في القول الأصح ، وقول الإمام أحمد في رواية عنه، وحينها لا خيار للمشتري في فسخه؛ لأن التفريط جاء من قبله، حيث لم يتأمل ، ولم يراجع أهل الخبرة ، وزاد في الثمن باختياره(7).
القول الثاني:
القول بأن البيع في هذه الحالة باطل واجب الفسخ، وهو قول للظاهرية من أهل الحديث، وبعض الحنابلة، ورواية أخرى عن الإمام أحمد، وهذا القول بناء على أن النهي يقتضي الفساد في المسألة الأصولية الشهيرة(8).
القول الثالث:
أن للمشتري الخيار بين الفسخ والإمضاء؛ لأن ذلك تدليس من جهة البائع، فأشبه التصرية. وهو قول المالكية في المشهور ، والحنابلة، وقول ابن حزم والشافعية في قول صححه الغزالي من أئمتهم(9).
قال الغزالي رحمه الله: "فهذا –أي النجش- إن لم تجرِ مواطأة مع البائع ، فهو فعل حرام من صاحبه، والبيع منعقد، وإن جرت مواطأة ففي ثبوت الخيار خلاف، والأولى إثبات الخيار؛ لأنه تغرير بفعل يضاهي التغرير في المصراة، وتلقي الركبان"(10).
غير أن الحنابلة قيدوا قولهم بثبوت الخيار للمشتري بما إذا وقع البيع بغبن، لم تجر العادة بمثله، وقيده ابن حزم بما إذا وقع البيع بزيادة على القيمة (أي ثمن المثل) مطلقا(11).
وقال ابن رجب : "فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ فله ذلك، وإن أراد الإمساك، فإنه يحط عنه ما غُبن به من الثمن، ذكره أصحابنا"(12).
ــــــــ
(1) لسان العرب، المرجع السابق، مادة نجش (3/587).
(2) المصباح المنير، المرجع السابق،مادة: نجش (3/587).
(3) الهداية بشروحها (6/106)، وبدائع الصنائع (5/233)، وابن عابدين ( 4/132)، والشرح الكبير للدردير(3 /68)، وشرح الخرشي (5/82)، وتحفة المحتاج (4/ 315)، وشرح المحلي على المنهاج (2/184)، والمغني (4/ 278). المراجع السابقة.
(4) مختصر المزني (6/420).
(5) ينظر: فتح الباري (4/355).
(6) ينظر: في فقه المعاملات المالية المعاصرة قراءة جديدة، د. نزيه حماد، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، عام 1428هـ،2007م، ص (78-75).
(7) ينظر: البحر الرائق (6/107)، البيان للعمراني (5/347)، أسنى المطالب (2/40).
(8) ينظر: بداية المجتهد (2/167)، المغني (6/305)، المحلى (8/449).
(9) ينظر: الكافي لابن عبد البر، ص (365)، تحفة المحتاج (4/315)، المغني (6/305)، المحلى (8/448).
(0 ) إحياء علوم الدين (2/71).
(1 ) في فقه المعاملات المالية المعاصرة قراءة جديدة ، د. نزيه حماد، ص (79).
(2 ) جامع العلوم والحكم (2/264).