تشريح جثة الميت
25 ربيع الثاني 1435
أ.د. خالد المشيقح

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذا بحث حول مسألة حكم تشريح جثة الميت:
علم التشريح: هو علم يبحث في كيفية أجزاء بدن الميت وتركيبها من العروق والأعصاب والغضاريف والعظام واللحم وغير ذلك من أحوال كل عضو.
والفقهاء من قديم الزمان يتكلمون فني علم التشريح بل إن علماء الإسلام ألفوا مؤلفات في علم التشريح كما سنذكر شيئاً منها فمثلاً الفقهاء يقولون الاكتحال في رمضان يفطر لأن أهل التشريح يقولون بين العين وبين الحلق منفذ .
وأيضاً قال بعض الفقهاء المني نجس لأنه يخرج من مخرج البول.
والقول الثاني :
قالوا أن المني طاهر لأن علم التشريح يقولون هناك ثلاثة مخارج: مخرج للبول مخرج للمني ومخرج للمذي فمخرج البول غير مخرج البول.
وغير ذلك فتجد أن الفقهاء يتكلمون عن علم التشريح وكما ذكرنا أن العلماء لهم مؤلفات في ذلك - علم التشريح - :
ابن جماعة الكناني الشافعي رحمه الله لـه كتاب في التشريح والسيوطي لـه كتاب أيضاً في علم التشريح وكذلك حسن عطارله حاشية على شرح كتاب الجلال المحلي في أصول الفقه لـه كتاب مستقل في علم التشريح.
والعلماء رحمهم الله ذكروا أسباب تشريح الجثة :
أولاً: سبب التعليم :
كما يسلكه الآن طلاب كليات الطب البشري، فيأتون بالجثة ثم يشرحونها لكي يتعلم الطلبة على هذه الجثة وينظرون إلى الأعضاء.
ثانياً: التشريح الجنائي: وذلك لمعرفة سبب وفاة المريض هل سبب وفاته سبب طبيعي أو أن سبب وفاته سبب غير طبيعي ناتج عن اعتداء إما خنق و إما ضرب و إما سم أو غير ذلك.
ثالثاً: التشريح المرضي :
وهو الكشف عن سبب الوفاة عموماً لماذا مات هذا الشخص، أي ليس هناك اتهام أو قضية وليس هناك تعلم في كليات الطب لكن لكي يعرف ما هو سبب موت هذا الشخص ما هي العلل وما هي الأسقام التي أدت بوفاته لكي يتخذ أسباب الوقاية من الأدوية ونحو ذلك.
هذه أقسام التشريح اختلف فيها العلماء رحمهم الله :
القسم الأول: التشريح لأجل التعلم هل هذا جائز أو ليس جائزاً ؟
هذا موضع خلاف فالعلماء رحمهم الله لهم في ذلك ثلاثة آراء: الجواز مطلقاً، المنع مطلقاً، التفصيل في هذه المسألة.
الرأي الأول: الجواز مطلقاً.
هذا صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة في دورته العاشرة اختار قول من قال بالجواز وأنه لا بأس لطلاب الطب البشري أن يزاولوا مثل هذه المهن وتشرح مثل هذه الجثث.
واستدلوا على ذلك بعدة أدلة :
1- إذا تعارضت مصلحتان تقدم أعلى المصلحتين فعندنا مصلحة الميت أنه لا يشرح وعندنا المصلحة العامة وهي أنه يشرح كي يستفيد الناس ويتعلم هؤلاء الطلاب الذين سيتمكنون من مداواة الناس.. إلخ فقالوا المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
2- كذلك أيضاً إذا تعارضت مفسدتان فإنه ترتكب أدنى المفسدتين، فتشريحه مفسدة والجهل بأحكام علم الطب مفسدة عامة فترتكب أدنى المفسدتين.
3- والفقهاء رحمهم الله نصوا على شيء من ذلك فقالوا: لا بأس من أن يشق بطن الميت الحامل لكي يخرج الحمل إذا كان هذا الحمل ترجى حياته.
4- وقالوا أيضا ًبأن الميت لو كان بطنه مال مغصوب فإنه لا بأس أن يشق بطنه ليستخرج هذا المال المغصوب.
5- كذلك أيضاً قالوا أنه يجوز في حالة الاضطرار أكل بدن الميت فكذلك أيضاً هذا التشريح فإنه يجوز.
الرأي الثاني: المنع مطلقاً وأن هذا لا يجوز.
واستدلوا على ذلك بأدلة :
1- قول الله عزوجل: (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )).
2- حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كسر عظم الميت ككسره حياً )).
3- أن العلماء مجمعون على أن الخصاء - يعني قطع خصتي أهل الحرب والأرقاء - محرم.
4- أن الشارع نهى عن المثلة والنُّهبة كما في حديث قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( نهى عن النهبة والمثلة)).
5- حديث أبي مرثد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) فإذا كان الجلوس محرم فبتشريح الجثة من باب أولى.
والرأي الثالث: التفصيل في هذه المسألة أنه يجوز تشريح جثة الكافر لغرض التعلم وأما المسلم فلا يجوز تشريح جثته، وهذا القول هو الذي صدرت به قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (47)، واستدلوا على ذلك بأدلة:
6- أن الله عز وجل قال في حق الكافر: (( وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ))، فكرامة الكافر ليست ككرامة المسلم فهي أخف وحرمته ليست كحرمة المسلم،فالكافر أهان نفسه بالكفر وعدم الإيمان فليس له مكرم، فقالوا بأن هذا يسوغ تشريح جثة الكافر دون المسلم.
7- للحاجة والضرورة.
8- بأن جثة الكفار يمكن الحصول عليها ويجوز شراء هذه الجثث بأرخص الأسعار للضرورة لأن الكفار لا يحترمون أبدانهم وجثثهم كما يحترم المسلمون جثة المسلم الذي امتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا في كثير بلدان أهل الكفر يحرقون جثث موتاهم ومنهم من يلقيها في البحر ليتخلص منها.
الترجيح :
وهذا القول هو الأقرب يفصل في هذه المسألة.
وذكروا لجواز ذلك شروطاً :
1- أن يكون التشريح بقدر الحاجة، فإذا احتجنا أن نشرح اليد فلا نشرح بقية الجسم القدم أو احتجنا أن نشرح الرأس فلا نشرح بقية الجسم فمثلاً الطلاب الذين يدرسون طب العيون بحاجة إلى تشريح العين وليسوا بحاجة إلى القدم أو الرجل فالتشريح يكون بقدر الحاجة أو مثلا ً الذين يدرسون في تخصص القلب يشرحون القلوب فقد يحتاجون لإلى شيء آخر لكن إذا كانوا لا يحتاجون إلى شيء آخر نقول الضرورة تقدر بقدرها.
2- أن تشريح جثث النساء يكون من قبل النساء وأما تشريح جثث الرجال فإنه يكون من قبل الرجال.
3- أن هذه الأجزاء تدفن بعد تشريحها.
القسم الثاني: التشريح الجنائي أو التشريح من أجل التحقيق الجنائي
وذلك أن يشك في موت هذا الشخص هل كان موته طبيعياً أو أنه مات بسبب غير طبيعي كما لو أعتدي عليه إما بخنق أو بضرب أو بتسميم ونحو ذلك فيحتاج إلى أن تشرح جثثه فينظر هل هناك سبب غير طبيعي أدى إلى وفاته أو أن وفاته طبيعية.
جمهور المعاصرين أن التشريح الجنائي جائز وقد يكون واجباً وقد أخذ به مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة وكذلك أيضاً هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية فتوى رقم (47)
وكذلك أيضاً دار الفتيا المصرية، لأن التشريح الجنائي يترتب عليه مصالح عظيمة والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة وترتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، فمصلحة الميت لا أنها لا تشرح جثثه لكن المصلحة العامة وهي مصلحة المجتمع أن تشرح الجثة.
ومن المصالح التي تترتب على تشريح الجثة في التشريح الجنائي :
1 – صيانة حكم القاضي من الخطأ، لأن القاضي إذا لم تشرح هذه الجثة قد يخطئ في الحكم لعدم وجود الدليل على أن الموت كان طبيعياً أو أن الموت كان بسبب اعتداء على هذا الشخص، فمع التشريح يهتدي القاضي إلى إصابة الحق.
2 – صيانة حق المتهم، قد يكون هناك شخص يتهم بقتل هذا الشخص فنحتاج إلى تشريح جثثه هل موته كان طبيعياً أو كان غير طبيعي.
3 – صيانة حق المجتمع وذلك بتحقيق الأمن.
وهذا التشريح الجنائي اشترط العلماء رحمهم الله له شروطاً :
الشرط الأول: أن يكون هناك متهم يتهم بالاعتداء على هذا الشخص وقتله، فإن لم يكن هناك متهم فلا حاجة إلى التشريح .
الشرط الثاني: قيام الضرورة للتشريح هذه الجثة وذلك لضعف الأدلة الجنائية، لأن الأصل في التشريح أنه محرم ولا يجوز لما في ذلك من انتهاك هذه الحرمة ولما في ذلك من التمثيل والنبي صلى الله عليه وسلم (( نهى عن المثلة )).
وأما إذا لم تقم ضرورة بأن كانت الأدلة الجنائية واضحة في أن المعتدي هو زيد من الناس أو انه قد مات موتاً طبيعياً فإنه لا يلجأ إلى التشريح
الشرط الثالث: إذن القاضي الشرعي.
الشرط الرابع: أن يكون هناك طبيب ماهر يتمكن من معرفة ما يبين حال الجناية .
الشرط الخامس: أن لا يُسقط الورثة حقهم فلو أن الورثة أسقطوا حقهم من المطالبة بدم الجاني فإنه لا فائدة من التشريح حينئذ.
القسم الثالث: التشريح المرضي
وذلك أن يشرح الميت لكي ينظر ما هي الأسباب والعلل التي أدت إلى موته، ويترتب على ذلك أنه تتخذ الأدوية والعلاجات والوقايات من هذا المرض.
هذا التشريح المرضي موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله :
والصحيح في هذه المسألة أنه يجوز عند وجود الغرض الصحيح فلا بد أن يكون هناك سبب أو غرض صحيح يدفع إلى جواز التشريح، كأن يصاب هذا الشخص بمرض،وهذا المرض يخشى تعديه على المجتمع لكونه مرضاً حادثاً طارئاً لم تتخذ لـه العلاجات و الوقايات.
والعلة في ذلك أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة فتقدم أعلى المصلحتين على أدناهما وترتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وذلك أن تحصين المجتمع من الأمراض ووقايته منها هذه مصلحة عامة وحرمة الميت مصلحة خاصة فتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
والعلماء رحمهم الله جوزوا التشريح الجنائي حتى بعد موت الميت ودفنه لما يترتب على ذلك من المصلحة العظيمة التي تقدم على مصلحة حرمة الميت وحرمة انتهاكه بعد دفنه لكن التشريح من أجل التعلم هذا لا يجوز بعد دفن الميت وكذلك أيضاً التشريح المرضي هذا أيضاً لا يجوز.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن نبش القبر يجوز في مواضع منها :
الموضع الأول: إذا دفن الميت بلا تغسيل فجمهور أهل العلم قالوا يجوز أن ينبش القبر ثم يغسل الميت ما لم يتغير الميت كما لو تغيرت حالته أو تفسخ ونحو ذلك فإنه لا ينبش في هذه الحالة لكن إذا كان الميت قريب العهد بالدفن ودفن بلا تغسيل قال العلماء أنه يجوز أن ينبش لكي يغسل.
الموضع الثاني: إذا دفن إلى غير القبلة فالشافعية والحنابلة قالوا بأنه لا بأس أن ينبش من قبره ويدفن إلى القبلة.
الموضع الثالث: لو دفن قبل الصلاة عليه، فالحنابلة والمالكية قالوا لا بأس أن ينبش وأن يصلى عليه.
الموضع الرابع: لو دفن بلا كفن فالحنابلة جوزوا نبشه وتكفينه ثم بعد ذلك يدفن والشافعية منعوا من ذلك.
الموضع الخامس: لو دفن في أرض مغصوبة فالفقهاء يتفقون على أنه يجوز أن ينبش وأن يدفن مع الناس.