بيع وتأجير مرافق المسجد
12 صفر 1435
معاذ بن عبدالله بن عبدالعزيز المحيش

بيع مرافق المسجد.
لا تخلو مرافق المسجد من حالين:
أ‌. أن يشملها أحكام المسجد( 1)، وعليه فإن بيعها له حكم بيع المسجد، وذهب أئمة المذاهب الأربعة إلى حرمة بيع المسجد واستبداله إذا لم يحتج لذلك، فإن احتاج إلى بيعه واستبداله كتعطل منافعه المقصودة ونحو ذلك، فقد ذهب الحنفية(2) والمالكية(3) والشافعية(4) وبعض الحنابلة(5) إلى حرمة بيعه، وذهب الحنابلة إلى جواز بيعه(6)، بينما ذهب بعض المالكية(7) والحنابلة(8) إلى جواز بيع المسجد واستبداله للمصلحة، والحاجة أخص من المصلحة، ولا يتصور في مسألتنا تعطل منافع مرافق المسجد المقصودة بالكلية دون تعطل المسجد، أو تباع مرافق المسجد للمصلحة دون المسجد، وبناءً على ذلك فلا يجوز بيع مرافق المسجد استقلالاً؛ لما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به، قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول، متفق عليه(9)، فالأصل تحريم بيع الأوقاف بدون حاجة أو ضرورة، وحرمة المسجد أعظم من حرمة الأوقاف.
ب‌. ألا يشملها أحكام المسجد، وعليه فإن بيعها له حكم بيع العقار الموقوف، وبيع العقار الموقوف له صورتان:
الصورة الأولى: أن تتعطل منافع الوقف بالكلية، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال أشهرها:
القول الأول: يجوز بيعه واستبداله، وإليه ذهب الحنفية(10) والحنابلة(11) وبعض المالكية(12).
واشترط المالكية لذلك: أن يكون العقار خرباً، وليس في غلته ما يصلحه، ولا يوجد من يقوم بإصلاحه تطوعاً(13).
القول الثاني: لا يجوز بيعه، وإليه ذهب المالكية(14) والشافعية(15) وبعض الحنابلة(16).
ولكن اتفقوا على نقض المسجد إذا خيف عليه الضياع والهلاك، بأن ينقل نقضه إلى مكان آمن أو يباع ويصرف في مسجد آخر.
جاء في التاج والإكليل: لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة ; لأنها وقف , ولا بأس ببيع نقضها إذا خيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك , وتوقيفه لها إن رجي عمارتها أمثل , وإن لم يرج عمارتها بيع وأعين بثمنها في غيره أو صرف النقض إلى غيره أ.هـ.(17).
وجاء في روضة الطالبين: ثم المسجد المعطل في الموضع الخراب إن لم يخف من أهل الفساد نقضه لم ينفض، وإن خيف نقض وحفظ وإن رأى الحاكم أن يعمر بنقضه مسجدا آخر جاز وما كان أقرب إليه فهو أولى أ. هـ.(18).
وجاء في الفروع: وعنه : لا يباع مسجد , فتنقل آلته لمسجد آخر أ.هـ.(19).
القول الثالث: يرجع إلى ملك الواقف، ومن ثَمَّ فيجوز له بيعه، وإليه ذهب محمد بن الحسن الشيباني(20).
أدلة القول الأول:
1. الفرس الموقوف على الغزو إذا كبرت ولم تصلح للغزو، وأمكن الانتفاع بها في شيء آخر، فإنه يجوز بيعها بالإجماع، ويُشتَرى بثمنها ما يصلح للغزو(21).
2. لأن في بيع الوقف الخرب استبقاء بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته, فوجب ذلك, قياساً على وطئه للجارية الموقوفة, فإنها تكون أم ولد تعتق بموته، وتجب قيمتها في تركته، يشتري بها مثلها لتكون وقفاً محل أم الولد(22).
3. قال ابن عقيل: الوقف مؤبد, فإذا لم يمكن تأبيده على وجه يخصصه استبقاء الغرض، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى , وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان, وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض، ويقرب هذا من الهدي إذا عطب في السفر, فإنه يذبح في الحال, وإن كان يختص بموضع, فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية, استوفي منه ما أمكن, وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره; لأن مراعاته مع تعذره تفضي إلى فوات الانتفاع بالكلية, وهكذا الوقفُ المعطلُ المنافعِ ا.çـ(23).
أدلة القول الثاني:
1. قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : "لا يباع ولا يوهب ولا يورث" متفق عليه(24).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الوقف مطلقاً، والاستبدال نوع من البيع.
ونوقش: بأن عموم: " لا يباع أصلها "، مخصوص بحالة تأهل الموقوف للانتفاع المخصوص؛ لأن في ذلك بقاء للوقف بمعناه حين تعذر الإبقاء بصورته، فيكون متعيناً(25).
2. أن السلف من الصحابة والتابعين لم يروى عنهم بيع أوقافهم لما خربت ومناقلتها، قال في المنتقى: بقاء أحباس السلف دائرة دليل على منع ذلك أ.هـ.(26).
3. أن ما لا ينقل الحبس عن مقتضاه إذا لم تخرب، فإنه لا ينقله عن مقتضاه وإن خرب، كالغصب(27).
ويناقش: بأنه قياس مع الفارق؛ حيث أن المقصود من عدم صحة بيع العين المغصوبة سواء كانت المنافع موجودة أو متعطلة؛ الحفاظ على مال الغير، بينما المقصود من عدم صحة بيع الوقف؛ الحفاظ على حق الموقوف عليهم؛ ولذلك جاز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه؛ حفاظاً على حق الموقوف عليهم.
4. كان في زمان الفترة عبدة الأصنام حول الكعبة، ولم تخرج الكعبة عن كونها موضعاً لعبادة الله عز وجل ، فكذلك سائر المساجد(28).
ونوقش: بأن القربة التي عينت له؛ هو الطواف من أهل الآفاق، ولم ينقطع الخلق عن ذلك زمان الفترة, وإن كان لا يصح منهم لكفرهم, على أن الإيمان لم ينقطع من أهل الأرض(29).
5. أن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه , لا يجوز بيعه مع تعطلها , كالمعتق , والمسجد أشبه الأشياء بالمعتق(30).
ونوقش: بأن متلف المسجد يضمنه بالبدل ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه، بخلاف المعتق، فإنه صار حراً لا يقبل المعاوضة بحال، فالوقف لله فيه شبه من التحرير، وشبه من التمليك، وهو أشبه بأم الولد عند من يمنع نقل الملك فيها؛ فإن الوقف من جهة كونه لا يبيعه أحد يملك ثمنه، ولا يهبه ولا يورث عنه: يشبه التحرير والإعتاق، ومن جهة أنه يقبل المعاوضة بأن يأخذ عوضه فيشتري به ما يقوم مقامه: يشبه التمليك، فإنه إذا أتلف ضمن بالبدل واشترى بثمنه ما يقوم مقامه(31).
6. يلزم من جواز ذلك التطرق إلى بيع الأوقاف بدعوى الخراب، فيمنع بيع الأوقاف سداً للذريعة(32).
7. جاء في التاج والإكليل: إنما لم يُبَع الرَّبْعُ المحبس إذا خرب ; لأنه يجد من يصلحه بإجارته سنين فيعود كما كان أ.هـ.(33).
دليل القول الثالث: بأن الواقف جعل هذا الجزء من ملكه مصروفا إلى قربة بعينها . فإذا انقطع ذلك عاد إلى ملكه كالمحصر إذا بعث بالهدي , ثم زال الإحصار فأدرك الحج كان له أن يصنع بهديه ما شاء(34).
ونوقش: بأنه إزالة ملك على وجه القربة , فلا يعود إلى مالكه باختلاله , وذهاب منافعه كالعتق(35).
الراجح: هو جواز بيع العقار الموقوف إذا تعطلت منافعه، وأما استدلالهم: [ بأن السلف لم ينقلوا أوقافهم لما خربت ]، فلا يسلم لهم ذلك، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر للمصلحة، فنقض إجماعهم.
ويحتمل كذلك أنهم لم يجدوا حاجة في نقل أوقافهم واستبدالها.
وأما دعواهم بأن: [ العقار يمكن إصلاحه بإجارته سنين فيعود كما كان ]، فيلزم من ذلك تضرر الموقوف عليهم، وذلك يؤدي إلى ضياع الوقف وعدم الاهتمام به، وما يعود إلى الموقوف عليه من النفع يعتبر في حكم المعدوم لقلة دخله، وما قارب الشيء أخذ حكمه، فإن كان النفع من الإجارة قليل جداً، فإن حكمه كحكم عدم وجوده، والله أعلم.
ولا يلزم من القول بجواز بيع الوقف إذا خرب: أن يتخذ الناس ذلك ذريعة في بيع الأوقاف بحجة خرابها؛ لأن ذلك من الحيل المحرمة التي لا تبيح المحرم، ولكن إذا غلب ذلك على الناس، أو اعتاده بعض السلاطين، فنمنع ذلك سداً لذريعة التلاعب بالأوقاف، قال أبو زهرة: حكى لنا التاريخ أن قوماً من ذوي السلطان قد مكن الله لهم في الأرض، فعاثوا فيها فساداً، وعدوا على الأوقاف يأكلونها، وقد عاونهم على ذلك قضاة ظالمون وشهود زور، فقد ذكر التاريخ أن الأمير جمال الدين وهو من أمراء مصر في عهد المماليك كان إذا وجد وقفاً مغلاً وأراد أخذه، أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضر بالجار والمار، وأن الحظ أن يستبدل به غيره، فيحكم قاضي القضاة باستبدال ذلك، وهكذا كلما أراد وقفاً اصطنع شهوداً يشهدون بأن الاستبدال في مصلحة الوقف، وفي مصلحة الكافة، وصار الناس على منهاجه أ.هـ.(36).
الصورة الثانية: ألا تتعطل منافع الوقف بالكلية، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال أشهرها:
القول الأول: يجوز للمصلحة، وإليه ذهب بعض الحنفية(37) والمالكية(38) والحنابلة(39)، قال ابن تيمية: يجب بيعه بمثله مع الحاجة, وبلا حاجة يجوز بخير منه، لظهور المصلحة، ولا يجوز بمثله، لفوات التعيين بلا حاجة(40).
القول الثاني: يحرم بيعه، وإليه ذهب الحنفية(41) والمالكية(42) والشافعية(43) والحنابلة(44).
أدلة القول الأول:
1. لما قدم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بنى القصر، واتخذ مسجداً عند أصحاب التمر(45)، قال: فنقب بيت المال، فأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن لا تقطع الرجل وانقل المسجد، واجعل لبيت المال في قبلته، فإنه لن يزال في المسجد مصلٍ، فنقله عبدالله، فخط له هذه الخطة. رواه أحمد والطبراني(46).
قال ابن عقيل: وهذا كان مع توفر الصحابة: فهو كالإجماع إذا لم ينكر أحد ذلك مع كونهم لا يسكتون عن إنكار ما يعدونه خطأ؛ لأنهم أنكروا على عمر النهي عن المغالات في الصدقات حتى ردت عليه امرأة(47)، وردوه عن أن يحد الحامل فقالوا: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلا فما جعل لك على ما في بطنها سبيلا(48)، وأنكروا على عثمان في إتمام الصلاة في الحج حتى قال: إني دخلت بلدا فيه أهلي(49)، وعارضوا علياً حين رأى بيع أمهات الأولاد(50) فلو كان نقل المسجد منكرا لكان أحق بالإنكار؛ لأنه أمر ظاهر فيه شناعة أ.هـ.(51)، فإن جاز بيع المسجد واستبداله، فإن بيع الوقف المستغل أولى من بيع المسجد؛ لأن المسجد تحترم عينه شرعاً، ويقصد الانتفاع بعينه: فلا يجوز إجارته ولا المعاوضة عن منفعته، بينما تجوز إجارة الوقف المستغل والمعاوضة عن منفعته، وليس المقصود أن يستوفي الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقصد ذلك في المسجد، ولا حرمة له شرعية لحق الله تعالى كما للمسجد(52).
ونوقش بما يلي(53):
أ‌. بأنه يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد.
ويجاب عنه: بأن التاريخ أثبت أن عمر رضي الله عنه أمر بنقل المسجد إلى بيت المال، قال أحمد بن حنبل: نقب بيت المال بالكوفة وعلى بيت المال ابن مسعود فكتب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد وصير بيت المال في قبلته؛ فإنه لن يخلو من مصل فيه. فنقله سعد إلى موضع التمارين اليوم وصار سوق التمارين في موضعه وعمل بيت المال في قبلته فلا بأس أن تنقل المساجد إذا خربت أ.هـ.(54).
ب‌. واستدلاله بالانتفاع بالاستبدال مردود بالحديث: "لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث"(55).
1. عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم" متفق عليه(56).
قال ابن تيمية: ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه صلى الله عليه وسلم واجبا لم يتركه فعلم أنه كان جائزا وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام. وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر. فعلم أن هذا جائز في الجملة، وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الإبدال أ.هـ.(57).
2. قال ابن تيمية: بيع الوقف في عامة المواضع التي أجازوها الفقهاء لم يكن إلا مع قلة نفعه، لا مع تعطل نفعه بالكلية؛ فإنه لو تعطل نفعه بالكلية لم ينتفع به أحد؛ لا المشتري ولا غيره. وبيع ما لا منفعة فيه لا يجوز أيضاً، فغايته أن يخرب ويصير عرصة وهذه يمكن الانتفاع بها بالإجارة بأن تكرى لمن يعمرها. وهو الذي يسميه الناس: الحكر(58) ... فتبين أن المسوغ للبيع والتعويض نقص المنفعة؛ لكون العوض أصلح وأنفع؛ ليس المسوغ تعطيل النفع بالكلية. ولو قدر التعطيل ليكن ذلك من الضرورات التي تبيح المحرمات وكلما جَوَّزَ للحاجة لا للضرورة كتحلي النساء بالذهب والحرير والتداوي بالذهب والحرير فإنما أبيح لكمال الانتفاع؛ لا لأجل الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها؛ وإنما الحاجة في هذا تكميل الانتفاع؛ فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها. فهذه هي الحاجة في مثل هذا. وأما الضرورة التي يحصل بعدمها حصول موت أو مرض أو العجز عن الواجبات كالضرورة المعتبرة في أكل الميتة فتلك الضرورة المعتبرة في أكل الميتة لا تعتبر في مثل هذا أ.هـ.(59).
أدلة القول الثاني:
1. قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : "لا يباع ولا يوهب ولا يورث" متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الوقف مطلقاً سواء لمصلحة أم لا.
وأجيب عنه: بأن البيع المنهي عنه هو المبطل لأصل الوقف، ولهذا قرنه بالهبة والإرث، وأما ما كان بدلاً عنه فإنه لا يدخل في الحديث؛ لأن في الوقف حق لمستحقيه، وهذا الحق يزول بالبيع المبطل لوقفيته لا بإبداله بما هو خير منه(60).
2. عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أهدى عمر بن الخطاب نجيباً(61)، فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله، إنى أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلاثمائة دينار، أفأبيعها وأشترى بثمنها بدناً، قال: "لا، انحرها إياها" رواه أبو داود وأحمد(62).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعها واستبدالها بأكثر منها عدداً، فكذلك الوقف لا يصح بيعه واستبداله.
ونوقش بما يلي(63):
أ‌. أن الحديث ضعيف، فلا حجة فيه.
ب‌. على التقدير بصحة الحديث، فإن هذه قضية عين، ليس فيها لفظ عام يقتضي النهي عن الإبدال مطلقاً، وليس في الحديث أن البدل كان خيراً من الأصل، بل ظاهره أنها كانت أفضل، ولهذا قال أبو داود في سننه: هذا لأنه كان أشعرها أ.هـ.. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الرقاب أفضل؟ فقال: "أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها" متفق عليه(64)، وهذه النجيبة كانت نفيسة، ولهذا بذل فيها ثمن كثير، فكان إهداؤها إلى الله تعالى أفضل من أن يهدي بثمنها عدد دونها(65).
الراجح: هو القول الأول لقوة أدلته، ولثبوت ذلك عن الصحابة، ولكن لما انتشر الفساد بين الناس، فإن بيع الوقف للمصلحة يجوز بشروط تحمي الوقف من الضياع، وتضمن وجود المصلحة في استبداله، وهي:
1. أن يتم بيعه تحت نظر من يثق الناس في دينه وعلمه سواء كان عالماً أو قاضياً أو هيئة شرعية؛ حتى لا يعبث الظلمة من الحكام والقضاة بالأوقاف.
2. أن يحدد بديلاً للوقف.
3. أن يعد دراسة جدوى لاستبدال الوقف بآخر، بحيث يغلب على الظن أن البدل سيكون خيراً من المبدل منه.

تأجير مرافق المسجد.
لا تخلو مرافق المسجد من حالين:
أ‌. إن أخذت حكم المسجد، فإنه لا يجوز تأجيرها؛ لأن المسجد تحترم عينه شرعاً، ويقصد للانتفاع به، بخلاف وقف الاستغلال فليس له حرمة شرعية لحق الله تعالى كما للمسجد، ولا يقصد به أن يستوفي الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقصد ذلك في المسجد(66)، وجاء في البحر الرائق: ولا يجوز للقيم أن يجعل شيئا من المسجد مستغلا ولا مسكنا أ.هـ.(67).
ب‌. ألا يشملها أحكام المسجد، وعليه فإن تأجيرها له حكم تأجير الوقف، وقد اتفق الفقهاء على مشروعية تأجير الوقف واستثماره(68).
• تأجير سكن الإمام والمؤذن:
يعتبر [ سكن المؤذن والإمام ] من العقارات التي توقف لصالح المسجد؛ لأن سكن الإمام والمؤذن بالقرب من المسجد فيه إعانة لهما على القيام بواجبهما، خصوصاً في زمن اتسعت فيه القرى والأمصار، ولكن هل يجوز للإمام أو المؤذن تأجير سكنه والاستفادة من أجرته؟
للمسألة حالتان:
أ‌. أن ينص الواقف على انتفاع الإمام أو المؤذن من البيت، إما بسكناه فيها أو بتأجيرها والاستفادة من ثمنها: فيجوز لهما تأجيرها وأن يستفيدا من ريعها.
ب‌. ألا ينص الواقف على ذلك، وإنما نص على بيت يسكنه الإمام أو المؤذن: فيتبع العرف المعمول به أثناء وقف المسجد بمصالحه، فإن غلب على أهل بلد استفادة الإمام من تأجيره لسكنه، ولم يمنعه نظام البلد، فيجوز حينئذٍ تأجيره والاستفادة من ثمنه؛ لحمل ألفاظ الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم.
أما إذا منعه نظام البلد من الاستفادة من ريعه، فلا يجوز حينئذٍ تأجيره والاستفادة من ثمنه؛ لأن الأنظمة المعمول بها في الدولة تخلق عرفاً جديداً يعمل الناس به.
قال القرافي: إذا وقف وقفا على أن يسكن أو على السكنى ولم يزد على ذلك فظاهر اللفظ يقتضي أن الواقف إنما ملك الموقوف عليه الانتفاع بالسكنى دون المنفعة فليس له أن يؤاجر غيره ولا يسكنه وكذلك إذا صدرت صيغة تحتمل تمليك الانتفاع أو تمليك المنفعة وشككنا في تناولها للمنفعة قصرنا الوقف على أدنى الرتب وهي تمليك الانتفاع دون تمليك المنفعة فإن قال في لفظ الوقف ينتفع بالعين الموقوفة بجميع أنواع الانتفاع فهذا تصريح بتمليك المنفعة أو يحصل من القرائن ما يقوم مقام هذا التصريح من الأمور العادية أو الحالية فإنا نقضي بمقتضى تلك القرائن ومتى حصل الشك وجب القصر على أدنى الرتب لأن القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها والنقل والانتقال على خلاف الأصل فمتى شككنا في رتب الانتقال حملنا على أدنى الرتب استصحابا للأصل في الملك السابق أ.هـ.(69).
• تأجير جزء من المسجد على مؤسسة إعلامية:
تضع المؤسسة الإعلامية لوحة رقمية إلكترونية فوق سطح المساجد أو في جدارها الخارجي أو في حريمها أو رحبتها، وتدفع المؤسسة أجرة مقابل الانتفاع بتلك البقعة، فما حكم تأجير البقعة على المؤسسة الإعلامية؟
مما تقدم ذكره من هذا المبحث مع ضابط المرافق التي تأخذ حكم المسجد، ظهر للباحث ما يلي:
• يجوز تأجير بقعة من المسجد على تلك المؤسسات، وينتفع المسجد بالأجرة، ولا يجوز أن ينتفع بالأجرة غيره كالإمام أو قيم المسجد.
• يشترط في البقعة المؤجرة ألا تأخذ حكم المسجد، كأن تكون في جداره الخارجي أو حريمه.
• اشترط أهل العلم في تأجير حريم المسجد ألا يضر بالمصلين(70)، وإلا حرم تأجيرها(71).
• فإن كانت البقعة تأخذ حكم المسجد، فإنه يحرم تأجيرها على تلك المؤسسات؛ لأن المساجد تحترم عينها شرعاً.
-----------------------------------------
1. تقدم ذكر المرافق التي تأخذ حكم المسجد والتي لا تأخذ حكم المسجد في صفحة 17-43.
2. انظر: البحر الرائق 5/240. حاشية ابن عابدين 6/548، 550.
3. انظر: مواهب الجليل 7/662- 663. حاشية الدسوقي 5/480.
4. انظر: مغني المحتاج 2/506. تحفة المحتاج 6/283.
5. انظر: الفروع 7/384. الإنصاف 7/77.
6. انظر: الفروع 7/384. الإنصاف 7/77.
7. انظر: الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام 2/150. التاج والإكليل 7/662. حاشية الدسوقي 5/480.
8. انظر: فتاوى ابن تيمية 31/212. الفروع 7/384.
9. تقدم تخريجه.
10. يقسم الحنفية استبدال الوقف إلى ثلاثة أقسام، قال ابن عابدين في حاشيته 6/589 : اعلم أن الاستبدال على ثلاثة وجوه: الأول: أن يشرطه الواقف لنفسه أو لغيره أو لنفسه وغيره , فالاستبدال فيه جائز على الصحيح وقيل اتفاقا، والثاني: أن لا يشرطه سواء شرط عدمه أو سكت لكن صار بحيث لا ينتفع به بالكلية بأن لا يحصل منه شيء أصلا, أو لا يفي بمؤنته فهو أيضا جائز على الأصح إذا كان بإذن القاضي ورأيه المصلحة فيه، والثالث: أن لا يشرطه أيضا ولكن فيه نفع في الجملة وبدله خير منه ريعا ونفعا, وهذا لا يجوز استبداله على الأصح المختاراهـ. انظر: البحر الرائق 5/223.
11. انظر: الفروع 7/384. الإنصاف 7/77. كشاف القناع 4/293.
12. انظر: التاج والإكليل 7/662.
13. صناعة الفتوى وفقه الأقليات 81.
14. انظر: التاج والإكليل 7/662. حاشية الدسوقي 5/480.
15. انظر: روضة الطالبين 4/420. مغني المحتاج 2/506.
16. انظر: الإنصاف 7/77.
17. 7/662.
18. 4/420.
19. 7/394.
20. انظر: المبسوط 12/42.
21. المغني 8/221.
22. انظر: المغني 8/222.
23. المغني 8/222.
24. تقدم تخريجه
25. انظر: كشاف القناع 4/293.
26. 6/130.
27. المنتقى 6/130.
28. انظر: المبسوط 12/43.
29. فتح القدير 6/237.
30. المغني 8/221.
31. انظر: فتاوى ابن تيمية 31/230.
32. انظر: الفواكه الدواني 2/165.
33. 7/662
34. انظر: المبسوط 12/42.
35. المغني 8/222.
36. محاضرات في الوقف 172.
37. حاشية ابن عابدين 6/589.
38. انظر: الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام 2/150. التاج والإكليل 7/662. حاشية الدسوقي 5/480.
39. انظر: الإنصاف 7/77. مجموع فتاوى ابن تيمية 31/212.
40. الإنصاف 7/79.
41. انظر: حاشية ابن عابدين 6/589.
42. حاشية الدسوقي 5/480. التاج والإكليل 7/662.
43. مغني المحتاج 2/506. تحفة المحتاج 6/283.
44. انظر: الفروع 7/384. الإنصاف 7/77.
45. لعله سوق اتخذ لبيع التمر في زمن الإمام أحمد.
46. رواه أبو بكر عبدالعزيز في الشافي عن الإمام أحمد، عزاه إليه ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 31/215.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 9/192.
وذكر القصة مطولة الطبري في تاريخه 4/46.
درجته: قال الهيثمي: القاسم لم يسمع من جده، ورجاله رجال الصحيح اهـ، والإمام أحمد يثبت هذا الخبر في فتاويه؛ وذلك لتواتره عند أهل الكوفة، جاء في مسائل الإمام أحمد لابنه صالح 3/34: قلت له مسجد يحول من مكان إلى مكان؟ قال إذا كان إنما يريد منفعة الناس فنعم وإلا فلا وابن مسعود قد حول مسجد الجامع من التمارين فإذا كان على المنفعة فنعم وإلا فلا اهـ.
انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/275. فتاوى ابن تيمية 31/215.
47. رواه البيهقي في كتاب النكاح، باب لا وقت في الصداق كثر أو قل 7/380 برقم 14336. درجته: صححه ابن كثير، وضعفه البيهقي. انظر: تفسير ابن كثير 1/411.
48. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/543. ورواه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب العدد، باب ما جاء في أكثر الحمل 7/729 برقم 15558.
49. أخرجها الطبري في تاريخه 4/268.
50. أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه 4/409. وأخرجها عبدالرزاق في مصنفه 7/291. والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الرجل يطأ أمته فتلد له 10/575 برقم 21767.
51. فتاوى ابن تيمية 31/222.
52. انظر: فتاوى ابن تيمية 31/229.
53. انظر: فتح القدير 6/237.
54. فتاوى ابن تيمية 31/217.
55. تقدم تخريجه.
56. البخاري في كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها 2/147 برقم 1586. مسلم في كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها 2/968 برقم 1333.
57. فتاوى ابن تيمية 31/244.
58. هو اتفاق صاحب العقار مع عاقد على أن يدفع له بدلاً سنوياً يسمى حكراً، مقابل الانتفاع بذلك العقار بالبناء أو الزرع فيه أو غير ذلك من الانتفاعات، من غير تقدير مدة العقد. انظر: أحكام عقد الحكر في الفقه الإسلامي مقارنة بما عليه العمل في المملكة العربية السعودية 70.
59. فتاوى ابن تيمية 31/224 -226.
60. انظر: فتاوى ابن تيمية 31/230 -231.
61. أي إبل نجيبة: وهو القوي منها، الخفيف السريع. انظر: النهاية 900.
62. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب تبديل الهدي 304 برقم 1758. ورواه أحمد 10/403. درجته: ضعفه البخاري وأبو حاتم وابن القطان وابن القيم والألباني والأرناؤوط؛ لجهالة جهم بن الجارود، ولأن جهماً لم يسمع من سالم بن عبدالله بن عمر. انظر: بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام 3/58. عون المعبود شرح سنن أبي داود 5/122. البدر المنير 9/318.
63. انظر: فتاوى ابن تيمية 31/251.
64. البخاري في كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل 3/144 برقم 2518. مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/88 برقم 84.
65. انظر: فتاوى ابن تيمية 31/251.
66. انظر: روضة الطالبين 4/420. مطالب أولي النهى 4/368.
67. 5/272.
68. انظر:البحر الرائق 5/254. حاشية ابن عابدين 6/616. شرح الخرشي على مختصر خليل 7/99. حاشية الدسوقي 5/487. تحفة المحتاج 6/288. مغني المحتاج 2/503. الإنصاف ـ6/36. كشاف القناع 4/268.
69. الفروق 1/324.
70. انظر: البحر الرائق 5/269. الأحكام السلطانية 237. تحفة المحتاج 6/222. كشاف القناع 2/374.
71. وهل يشترط لذلك أذن الإمام؟ على وجهين عند الشافعية والحنابلة. انظر المراجع السابقة.