الحكمة من النهي عن البيع في المسجد
16 شعبان 1438
معاذ بن عبدالله بن عبدالعزيز المحيش

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد.
جعل الله تبارك وتعالى المساجد مضماراً للتنافس في الطاعات فقال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) [سورة النور/36-37]
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوظيفة المساجد حيث قال: "إنما هي لذكر الله عزو جل ، والصلاة وقراءة القرآن" متفق عليه(1)، ويلحق بذلك كل طاعة لائقة بالمسجد كالموعظة ومذاكرة العلم وتعليمه، وأما غيرها كعقود المعاوضات - سوى البيع وما يلحقه - فالأصل أنها خلاف الأولى، قال الشوكاني: قوله : ( إن هذه المساجد ) إلخ مفهوم الحصر مشعر بعدم جواز ما عدا هذه المذكورة من الأقذار والقذى والبصاق ورفع الصوت والخصومات والبيع والشراء وسائر العقود وإنشاد الضالة والكلام الذي ليس بذكر وجميع الأمور التي لا طاعة فيها، وأما التي فيها طاعة كالجلوس في المسجد للاعتكاف والقراءة للعلم وسماع الموعظة وانتظار الصلاة ونحو ذلك، فهذه الأمور وإن لم تدخل في المحصور فيه لكنه أجمع المسلمون على جوازها كما حكاه النووي فيخصص مفهوم الحصر بالأمور التي فيها طاعة لائقة بالمسجد لهذا الإجماع وتبقى الأمور التي لا طاعة فيها داخلة تحت المنع. وحكى الحافظ في الفتح الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به قال : ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى ا.هـ.(2).
وشرع سبحانه وتعالى أحكاماً خاصة بالمسجد تهدف إلى تهيئته للعبادة من الناحية الحسية والمعنوية، ومن تلك الأحكام تنزيه المسجد عن البيع والشراء لما فيه من تعليق القلب بالدنيا في المكان الذي ينبغي أن يحمل القلوب على تعلقها بالآخرة، ولما فيه من جعل المسجد موضعاً للسلع وتحويله إلى سوق للدنيا بدلاً من كونه سوقاً للآخرة، قال محمد بن مسلمة: إن المبيع إما أن يكون حاضراً أو يكون غائباً، فإن كان حاضراً فإن المسجد ليس بموضع للسلع، ولو جاز ذلك صار المسجد سوقاً، وأما ما ليس بحاضر كالدور والأصول وبيع الصفة وشبهه فلما فيه من اللغط واللغو ا.هـ.(3).
ولأنه يفضي إلى اللغط واللغو المنهي عنه شرعاً في المكان الذي ينبغي أن يقدس ويرفع عن هذه التصرفات، قال ابن حبان: أن البيع لا يكاد يخلو من الرفث فيه ا.هـ.(4). وقال ابن حجر: إن مباشرة العقد في المسجد يفضي إلى اللغط المنهي عنه ا.هـ.(5).
والعلة في النهي عن ذلك أنه اتخذ المسجد محلاً لتجارته، يشير لذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك " أخرجه الترمذي(6).
وقد اتفق الفقهاء على التعليل بهذه العلة إذا جعل المسجد كالسوق(7)، وأما إذا كان البيع يسيراً أو وقع في المسجد اتفاقاً وليس قصداً فإن الفقهاء قد اختلفوا في علة النهي عن البيع في المسجد - ويسمى عند الأصوليين باستخراج المناط - على ستة أقوال:
القول الأول: أنه عقد معاوضة، وإليه ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
قال ابن عابدين: ( قوله وكل عقد ) الظاهر أن المراد به عقد مبادلة ليخرج نحو الهبة تأمل, وصرح في الأشباه وغيرها بأنه يستحب عقد النكاح في المسجد ا. هـ.(8).
وقال ابن المنذر: وإذ نهي عن البيع والشرى في المسجد ففي معناه أبواب المكاسب كلها ا.هـ.(9).
وقال النووي: كره الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة وكذا البيع والشراء والإجارة ونحوه من العقود هذا هو الصحيح المشهور ا.هـ.(10).
والجامع بين البيع والإجارة: أنها من عقود المعاوضات.
وجاء في كشاف القناع: ( ولا يجوز التكسب فيه ) أي المسجد ( بالصنعة كخياطة وغيرها قليلا كان ) ذلك ( أو كثيرا لحاجة وغيرها ) وفي المستوعب؛ سواء كان الصانع يراعي المسجد بكنس أو رش ونحوه أو لم يكن; لأنه بمنزلة التجارة بالبيع والشراء, ( ولا يبطل بهن ) أي: بالبيع والشراء والإجارة والتكسب بالصنعة ( الاعتكاف ) كسائر المحرمات التي لا تخرجه عن أهلية العبادة ( فلا يجوز أن يتخذ المسجد مكانا للمعايش ); لأنه لم يبن لذلك ( وقعود الصناع والفعلة فيه ينتظرون من يكريهم بمنزلة وضع البضائع فيه ينتظرون من يشتريها وعلى ولي الأمر منعهم من ذلك ) كسائر المحرمات ا.هـ.(11).
القول الثاني: علة النهي هي تحويل المسجد إلى سوق، ويكون ذلك إذا غلب البيع في المسجد وعمَّ فيه، فكل شيء يغلب على المسجد ويحوله عن وظيفته الأصلية من الصلاة والذكر وقراءة القرآن فإنه يشمله النهي، وهو رأي الإمام الطحاوي، وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد، إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أبناؤنا وأرقاؤنا، ليس بهم رغبة في الإسلام، وإنما فروا من العمل، فارددهم إلينا، فشاور أبا بكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله، فتغير وجهه، فقال لعمر: "ما ترى؟" فقال مثل قول أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش، ليبعثن الله عزو جل عليكم رجلاً منكم، امتحن الله قلبه للإيمان، فيضرب رقابكم على الدين"، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله ؟ قال: "لا"، قال عمر: أنا هو يا رسول الله ؟ قال: "لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد"، وكان قد ألقى إلى علي نعله يخصفها(12)، فقال الطحاوي: أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينهَ علياً رضي الله عنه عن خصف النعل في المسجد، وأن الناس لو اجتمعوا حتى يعموا المسجد بخصف النعال كان ذلك مكروهاً، فلما كان ما لا يعم المسجد من هذا غير مكروه وما يعمه منه أو يغلب عليه مكروهاً، كان ذلك في البيع وإنشاد الشعر والتحلق فيه قبل الصلاة مما عمه من ذلك فهو مكروه، وما لم يعمه منه ولم يغلب عليه فليس بمكروه، والله أعلم بالصواب ا.هـ.( 13).
القول الثالث: علة النهي كثرة اللغط وارتفاع الأصوات، وإليه ذهب المالكية.
قال الباجي: فأما البيع فقد روى ابن القاسم عن مالك في المجموعة لا بأس أن يقضي الرجل الرجل في المسجد دينا فأما ما كان بمعنى التجارة والصرف فلا أحبه فأرخص في القضاء لخفته وقلة ما يحظر منه فأما المصارفة فيحظر كل واحد منه بما يعاوض به وتكثر المراجعة وهذان المعنيان هما المؤثران في المنع ولعله يريد بذلك كثرة اللغط ولم يحظر فيه يسير العمل ولو كان قضاء المال جسيما تتكلف المؤنة في استجلابه ووزنه وانتقاده ويكثر العمل فيه لكثرته لكان مكروها ا.هـ.( 14).
قال الخرشي في شرحه على مختصر خليل: وكذلك يكره البيع والشراء في المسجد حيث كان فيه تقليب ونظر للمبيع , وأما مجرد العقد فهو جائز ولا فرق بين بيع الذوات والمنافع كأن يؤجر نفسه لتعليم القرآن في المسجد كبيراً أو صغيراً لا يعبث ويكف إذا نهي وقيد بعض كراهة البيع والشراء بما إذا لم يكن بسمسار وإلا حرم وظاهر كلام المؤلف أن الهبة والصدقة لا كراهة فيها; لأنه معروف مرغب فيه وأراد المؤلف بالبيع الإيجاب وبالشراء القبول وإلا لاكتفى بالبيع عن الشراء ; لأنه من لازمه ا.هـ.( 15).
القول الرابع: قال أبو سليمان الخطابي: ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد: من أمور معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم ا.هـ.(16)
القول الخامس: يلحق بالنهي ما كان خاصاً بآحاد الناس، أما ما ينتفع به عامة المسلمين فلا حرج فيه، قال المهلب: وفيه( 17): أن المسجد قد ينتفع به في أمر جماعة المسلمين لغير الصلاة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فيه الصدقات وجعله مخزنا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين وأن يبات عليه حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملا لجماعة المسلمين، وإذا كان العمل لخاصة الناس فيكره مثل الخياطة والجزارة، وقد كره قوم التأديب في المسجد، لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه ا.هـ.( 18).
القول السادس: قال ابن رسلان: ويلحق بذلك من رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته ا.هـ.( 19)، فقد جمع ابن رسلان بين القول الثالث والخامس.
الذي يظهر للباحث أن الأقرب إلى مقاصد الشريعة هو القول الثاني والسادس للأسباب الآتية:
1. الأصل في المناهي في أبواب المعاملات أنها معقولة المعنى، وليست تعبدية.
2. باستقراء أحكام المسجد نجد أن الأعمال المنهي عنها تشتمل على رفع للصوت ولغط، وخاصة بآحاد الناس مثل: البيع والشراء وإنشاد الضالة واستيفاء الديون كما في قصة كعب مع ابن أبي حدرد.
وأما الأعمال التي فيها رفع للصوت ونفع لعامة المسلمين فجائزة مثل: القضاء واللعان فيه، استقبال الوفود، لعب الحبشة بحرابهم فيه، جمع الصدقات فيه، إنشاد الشعر المتضمن لنصرة الإسلام وإعلاء كلمته.
3. أن المساجد بنيت للصلاة والذكر وقراءة القرآن، واتخاذها سوقاً للبيع والشراء أو محلاً لرواية الشعر ونقده وقراءته، يخرج المساجد عما بنيت له.

----------
1.رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله 8/12 برقم 6025. ورواه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطهر بالماء، من غير حاجة إلى حفرها 1/236 برقم 285، واللفظ له.
2. 1/230.
3. المنتقى شرح الموطأ 1/311.
4. انظر: صحيح ابن حبان 4/528.
5. فتح الباري لابن حجر 1/712.
6. الترمذي في كتاب البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد 312 برقم 1321. درجته: صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال عنه الترمذي: حديث حسن غريب، ورجح البزار والدارقطني إرساله. انظر: البحر الزخار 6/47. صحيح ابن حبان 4/528 . صحيح ابن خزيمة 2/560 . الحاكم في مستدركه 2/65 . العلل الوارد في الأحاديث النبوية للدارقطني 10/64ـ. فتح الباري لابن رجب2/525.
7.انظر النصوص الشرعية وكلام أهل العلم في صفحة 73- 78.
8.حاشية ابن عابدين 2/526.
9.الأوسط في السنن والإجماع والخلاف 5/126.
10.المجموع 2/141.
11. 2/367.
12.سيأتي تخريجه في صفحة 79.
13.شرح معاني الآثار 4/359.
14. 1/311.
15. 7/72.
16.شرح السنة للبغوي 2/375.
17.أي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل، فيجىء هذا بتمره، وهذا بتمره، حتى يصير عنده كوما من تمر، فجعل الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه، فقال: "أو ما علمت أن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون الصدقة" رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل، وهل يترك الصبي فيمس تمر الصدق 2/126 برقم 1485.
18.شرح ابن بطال 3/533.
19.نيل الأوطار 3/582.