الشرط المتقدم على العقد
20 جمادى الثانية 1436
د.عبدالله آل سيف

الشروط في العقود أنواع ثلاثة، فمنها شرط قبل العقد، ومنها شرط بعد العقد، ومنها شرط أثناء العقد، أو في صلب العقد، ومحل البحث هنا هو ما كان قبله.

اختيار ابن تيمية:
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - صحة الشرط المتقدم على العقد خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة [1].

أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول:
أن الشرط المتقدم لا يؤثر ولا عبرة به.

وهذا مذهب الحنفية [2]، والشافعية في المشهور [3]، وهو المذهب عند الحنابلة [4]، وبه قال الظاهرية [5].

القول الثاني:
التفريق بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد، أو المغير له، فإن كان رافعاً كالمواطأة على كون العقد تلجئة، أو تحليلاً أبطله. وإن كان مغيراً كاشتراط كون المهر أقل من المسمى لم يؤثر فيه. وهذا قول في المذهب اختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد [6].

القول الثالث:
أن الشرط المتقدم كالمقارن في الاعتبار.

وهذا مذهب الإمام مالك [7]، وقول للإمام أحمد وعليه متقدمو أصحابه [8]، ونسبه ابن تيمية للشافعي في قول له [9]، ورجحه ابن تيمية وابن القيم [10].

أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
أن هذا الشرط لم يوافق محلاً حيث عقد قبل وقته، قياساً على ما لو صلى الصلاة قبل وقتها.

ونوقش:
أ- لا نسلم أنه لم يصادف محلاً بل هو في محله، فكما أنهم سلموا بذلك وبجوازه في شروط النكاح فكذلك هنا.

ب- ثم القياس على الصلاة قياس مع الفارق، فالصلاة وردت في توقيتها نصوص صريحة محددة، بخلاف البيع فلا دليل على تحديده بوقت محدد.

أدلة القول الثاني:
وحجتهم في ذلك: أنه إذا كان تواطؤ لاشتراط شرط يرفع مقصود العقد فهو شرط باطل في نفسه، مبطل للعقد؛ لأن هذا تحايل على المحرم ومناقضة لمقصود العقد، والنيات في العقود معتبرة.

ويظهر - والله أعلم - أن أصحاب القول الثالث لا يخالفون في هذا، ولو قيل: إن القول الثاني داخل في الثالث لكان له وجاهة، لكن ابن تيمية عدّه قولاً ثالثاً؛ لأنهم نصوا على ذلك فذكره إتماماً للفائدة.

قال شيخ الإسلام:
فإن من أصولهم [يعني الصحابة] أن القصود في العقود معتبرة، كما يجعلون الشرط المتقدم كالشرط المقارن، ويجعلون الشرط العرفي كالشرط اللفظي، ولأجل هذه الأصول أبطلوا نكاح التحليل ا.هـ. [11].

حيث نسب إلى القائلين بتأثير الشرط المقارن واعتباره إبطال العقد بالشرط الذي قصد به التحايل على العقد، مما يدل أن القولين - الثاني والثالث - سواء في المعنى.

أدلة القول الثالث:
1- النصوص الدالة على وجوب الوفاء بالوعد والعهد، وتحريم إخلافه، وهذا منها، لأنه في حقيقته كالوعد، بل أولى لأنه دخله عامل الإلزام الذي تتصف به العقود.

ونوقش:
بأنها تحمل على الشروط المقارنة.

وأجيب عن هذه المناقشة:
بأن النصوص عامة لم تفرق، وعلى من فرق الدليل.

2- حديث "المسلمون على شروطهم" [12].
حيث دل على وجوب الوفاء بالشروط عموماً، وهذا داخل فيها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وقد قررنا دلائل ذلك من الكتاب والسنة وإجماع السلف وأصول الشريعة في مسألة التحليل، ومن تأمل العقود التي كانت تجري بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره، مثل عقد البيعة التي كانت بينه وبين الأنصار ليلة العقبة، وعقد الهدنة الذي كان بينه وبين قريش عام الحديبية وغير ذلك، علم أنهم اتفقوا على الشروط، ثم عقدوا العقد بلفظ مطلق، وكذلك عامة نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالوفاء بالعقود والعهود والشروط، والنهي عن الغدر، والثلاث تتناول ذلك تناولاً واحداً، فإن أهل اللغة والعرف متفقون على التسمية، والمعاني الشرعية توافق ذلك ا. هـ. [13].

3- القياس على الشرط المقارن بجامع أن كلاً منهما شرط.

ونوقش:
بأن الشرط المتقدم في حقيقته وعد لا شرط.

وأجيب عن هذه المناقشة:
بأن الدلالة الشرعية والعرفية تقضي بأنه شرط في حقيقته؛ لأن الطرف الثاني لن يرضى بدون وجوده، وهذا هو معنى الشرط.

4- أن العقود مبنية على المقاصد والنيات، وهذا في حقيقته شرط معتبر مراد للطرفين، فكان الأخذ به لازماً.

5- أن الأصل في المعاملات والعقود والشروط الصحة، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل، بل إن المالكية يقولون الأصل في العقود اللزوم [14].

6- أن العقود مبنية على التراضي، وصاحب الشرط لم يرض بدون وجود الشرط، فيكون إبطاله مع صحة العقد من أكل أموال الناس بالباطل، ومال المسلم لا يحل بغير طيب نفس منه [15].

الترجيح:
والراجح - والله أعلم - هو القول الثالث وهو اعتبار الشرط المتقدم وصحته، لقوة أدلتهم وصراحتها وموافقتها للقواعد الشرعية المرعية في العقود.

ولعل سبب الخلاف هو الخلاف في حقيقته هل هو شرط أو مجرد وعد فقط؟

وقد يكون من سبب الخلاف: الخلاف في تحديد الوقت المعتبر لصحة الشرط، سابقاً كان أو لاحقاً، أو مقارناً، والله أعلم.
----------------------------
[1] انظر: مجموع الفتاوى: (29/353) (20/378)، (32/108، 166)، الفتاوى الكبرى: (4/108)، (4/68)، القواعد النورانية: (242)، شرح الزركشي: (5/142)، الفروع: (5/211)، تصحيح الفروع: (5/211).
[2] انظر: البحر الرائق: (6/3)، بدائع الصنائع: (5/176)، اللباب: (2/12)، حاشية ابن عابدين: (4/605)، الدر المختار: (4/605)، الفتاوى الهندية: (3/40)، وانظر: الفتاوى الكبرى: (4/108)، القواعد النورانية: (242).
[3] انظر: المجموع: (9/461)، وانظر: الفتاوى الكبرى: (4/108)، (3/78)، القواعد النورانية: (242)، مجموع الفتاوى: (29/353).
[4] انظر: مجموع الفتاوى: (29/353)، القواعد النورانية: (242)، الفتاوى الكبرى: (4/108)، (3/78)، الفروع: (4/64-65)، الإنصاف: (4/354)،، تصحيح الفروع: (5/211)، مطالب أولي النهى: (3/67)، الروض المربع: (4/392)، دقائق أولي النهى: (2/160)، كشاف القناع: (3/188)، الشرح الممتع: (8/236).
[5] انظر: المحلى: (7/319، م 1447).
[6] انظر: الفتاوى الكبرى: (4/108)، (3/78)، شرح الزركشي: (5/142).
[7] بلغة السالك: (2/35) و (3/103)، الشروط في عقد البيع: (95)، وانظر: الفتاوى الكبرى: (4/108)، (3/78)، القواعد النورانية: (242).
[8] انظر: الفتاوى الكبرى: (4/108)، (3/78)، القواعد النورانية: (242)، مجموع الفتاوى: (29/353)، الفروع: (5/211).
[9] ولم أره في المجموع ولا غيره من كتب الشافعية.
[10] انظر: إعلام الموقعين: (3/145)، جامع الفقه لابن القيم: (4/121).
[11] مجموع الفتاوى: (20/378).
[12] سبق تخريجه ص: (381).
[13] الفتاوى الكبرى: (4/108)، (3/78).
[14] انظر: شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب: ( 566).
[15] انظر: الشروط في عقد البيع: (95-97).