الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية
27 صفر 1437
مجمع الفقهي الإسلامي التابعة لرابطة العالم الإسلامي.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد. أما بعد:
فقد عُرِض على مجلس المجمع الفقهي الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقود، ذات التنفيذ المتراخي، في مختلف الموضوعات، من تبدل مفاجئ، في الظروف والأحوال ذات التأثير الكبير، في ميزان التعادل، الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما، فيما يعطيه العقد كلاًّ منهما من حقوق، وما يحمله إياه من التزامات، مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة. وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها، من واقع أحوال التعامل وأشكاله، توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل، يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها الكثيرة. فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
1- لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة، يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة، تم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته، بمبلغ مائة دينار مثلاً، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها، وأجور عمال، تبلغ عند العقد- للمتر الواحد- ثمانين دينارًا، فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ، قطعت الاتصالات والاستيراد، وارتفعت بها الأسعار ارتفاعًا كبيرًا يجعل تنفيذ الالتزام مرهقًا جدًّا.
2- لو أن متعهدًا في عقد توريد أرزاق عينية يوميًّا، من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ونحوها، إلى مستشفي، أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أو إلى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدة عام، فحدثت جائحة في البلاد، أو طوفان، أو فيضان، أو زلزال، أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة، عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال. فما الحكم
الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال، التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر، الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة، وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات، وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات، أو شركات كبرى، لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد؟ فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره، قبل تبدل الظروف وطروء التغيرات الكبيرة المشار إليها، مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة أو ساحقة، تمسكًا بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج، من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة، يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟ وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع، من فقه المذاهب، واستعرض قواعد الشريعة ذات العلاقة، مما يستأنس به، ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي، والاجتهاد الواجب فقهًا، في هذا الشأن، كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1- أن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة، التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة، كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية- رحمهم الله- يسوغون فسخ الإجارة أيضًا بالأعذار الخاصة بالمستأجر، مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضًا بطريق الأولوية، فيمكن القول: إنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (ج2ص/291 من طبعة الخانجي الأولي بالمطبعة الجمالية بمصر) تحت عنوان: (أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر- أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط- إذا أكريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط- أي بسببه- أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر، حتى انقضى زمن الزراعة، فلم يتمكن المكتري من زرعها) انتهى كلام ابن رشد.
2- وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير ج6 ص/30) أنه : (إذا حدث خوف عام، يمنع من سكنى ذلك المكان، الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصَّر البلد، فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع، أو نحو ذلك: فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ، لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة، فأما إذا كان الخوف خاصًّا بالمستأجر، مثل أن يخاف وحده، لقرب أعدائه لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به، لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية، فأشبه مرضه).
3- وقد نص الإمام النووي- رحمه الله- في روضة الطالبين (ج5 ص/239)، أنه لا تنفسخ الإجارة بالأعذار، سواء أكانت إجارة عين أم ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتًا لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو استأجر حمامًا فتعذر الوقود.
قال النووي: (وكذا لو كان العذر للمؤجر، بأن مرض، وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين فعادوا واحتاج إلى الدار أو تأهل. قال: فلا فسخ في شيء من ذلك، إذ لا خلل في المعقود عليه). اهـ.
4- ما يذكره العلماء- رحمهم الله- في الجوائح التي تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأسباب العامة، كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك، مما هو عام، حيث يقررون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن، وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.
5- وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في مختصر الفتاوى( ص/673): أن من استأجر ما تكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية، فنقصت المنفعة المعروفة، لقلة الزبون، أو لخوف، أو حرب، أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.
6- وقال ابن قدامة أيضًا في الصفحة (92) من الجزء السابق الذكر نفسه: (ولو استأجر دابة ليركبها، أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه، لخوف حادث، أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق، فلكل واحد منهما فسخ الإجارة، وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز). وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (ج4 ص/179): (إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وإن إنكار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقل والشرع، لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلاً لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلاً وشرعًا).
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب، في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة.
7- قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده، وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع، أو جراد، أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، أنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها، ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة، وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله.
8- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ثبت عنه: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ". وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية، اعتبروها من دعائم الفقه الكبرى الأساسية، وفرعوا عليها أحكامًا لا تحصى، في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب. ومما لاشك فيه أن العقد الذي يعقد وفقًا لنظامه الشرعي، يكون ملزمًا لعاقديه قضاء، عملاً بقوله تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[المائدة: من الآية1]. ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة. وقد وجد المجمع، في مقاييس التكاليف
الشرعية، ومعايير حكمة التشريع، أن المشقة التي لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة، ومشقته في الصيام، وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي، توجب تدبيرًا استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منها. وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي- رحمه الله- في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة). فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة، لا تأثير لها على العقود، لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها التي لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرًا، بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيرًا استثنائيًّا. ويقول ابن القيم- رحمه الله- في كتابه (إعلام الموقعين): (إن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها، فليس من شرع الله في شيء، وحيثما ظهرت دلائل العدل وأسفر وجهه فثم شرع الله وأمره) اهـ . وقصد العاقدين، إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القصد لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد، مهما كانت النتائج، فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة (أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني).
ولا يخفي أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفًا في العقود المتراخية التنفيذ، لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء.
ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة، التي تنير طريق الحل الفقهي السديد، في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غَيَّرَ الأوضاع والتكاليف والأسعار، تغييرًا كبيرًا، بأسباب طارئة عامة، لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة، من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع، وبناءً على الطلب، تعديل الحقوق والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد، فيما لم يتم تنفيذه منه، إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له ، صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبًا معقولاً من الخسارة، التي تلحقه من فسخ العقد، بحيث
يتحقق عدل بينهما، دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعًا رأي أهل الخبرة الثقات.
2- ويحق للقاضي أيضًا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرًا بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقًا للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعًا للضرر المرهق لأحد العاقدين، بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها. والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. (*)
--------------------
(*) قرار رقم: 23 (7/5)