بيع الاستجرار
(أخذ الحوائج من البياعين ومحاسبتهم بالثمن بعد أجل)
توطئة
اعتاد الناس في بيعهم وشاع وانتشر بينهم قديمًا وحديثًا أن يذهب أحدهم إلى البائع فيأخذ منه كل يوم شيئًا فشيئًا من سلع كثوب، أو طعام، أو متاع، وقد لا يتفق المتعاقدان عند العقد على الثمن، أو لا يتلفظان ببيع، وتكون المحاسبة بالثمن ودفعه عند آخر الشهر، أو إلى آخر السنة، فيعطيه ما ترتب عليه دفعه واحدة.
أولا: تعريف بيع الاستجـرار
تعريف الاستجرار لغة
الجذب والسحب، وأجررته الدين؛ أي: أخرته له([1]).
تعريف الاستجرار في الاصطلاح
أخذ الحوائج من البياع شيئًا فشيئًا ودفع ثمنها بعد ذلك([2]). وهذا الاسم (الاستجرار) يعد صورة من الصور التي يتأجل فيها الثمن، وهو مصطلح عند الحنفية، ويسميه المالكية: ببيعة أهل المدينة لاشتهار ذلك بينهم([3]). أما الحنابلة فالاستجرار عندهم بما ينقطع به السعر، قال ابن القيم -رحمه الله-: "اختلف الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت العقد وصورتها البيع ممن يعامله من خباز أو لحام أو سمان أو غيرهم يأخذ منه كل يوم شيئًا معلومًا، ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع ويعطيه ثمنه"([4]).
ثانيا: صور بيع الاستجرار وحكمها الشرعي
ذكر الفقهاء صورا كثيرة لبيع الاستجرار، إلا أن الصورة التي ذكرتها في مطلع هذا المبحث، وفي تعريف الاستجرار في الاصطلاح هي الشائعة بين أوساط الناس. وتجد في كل مذهب من المذاهب الأربعة صورًا عديدة له، ثم تجدهم يختلفون في حكم البيع تبعًا للكيفية أو الصورة التي تم بها، فمنها ما هو جائز، ومنها ما هو ممنوع، وسأسرد غالب الصور التي حاولت جمعها في جميع المذاهب مشيرًا للمذهب الذي ذكرها، والحكم الشرعي لها بشيء من الإيجاز:
المذهب الحنفي:
1.أن يأخذ الإنسان من البياع ما يحتاج إليه شيئًا فشيئًا مما يستهلك عادة، كالخبز والملح والزيت والعدس ونحوها، مع جهالة الثمن وقت الأخذ، ثم يشتريها بعد استهلاكها.
الحكم: فالأصل عدم انعقاد هذا البيع؛ لأن المبيع معدوم وقت الشراء، ومن شرائط المعقود عليه أن يكون موجودًا، لكنهم تسامحوا في هذا البيع وأخرجوه عن هذه القاعدة (اشتراط وجود المبيع) وأجازوا بيع المعدوم هنا استحسانا. وقال بعض الحنفية : ليس هذا بيع معدومٍ إنما هو من باب ضمان المتلفات بإذن مالكها عرفا، تسهيلا للأمر ودفعا للحرج. وخرج بعضهم هذا النوع من البيوع على قرض الأعيان، ويكون ضمانها استحسانا"([5]).
2. أن يأخذ ما يحتاج إليه مع العلم بالثمن وقت الأخذ، ثم يحاسبه بعد ذلك.
الحكم: هذا البيع جائز؛ لأنه كلما أخذ شيئًا انعقد بيعًا بثمنه المعلوم، ويكون بيعًا بالتعاطي([6]).
3.أن يدفع الإنسان إلى البياع مبلغا من المال، ويقول له: اشتريت منك عشرة كيلو من السكر، ولم يعينا السكر، ثم يأخذ كل أسبوع كيلو واحدًا.
الحكم: فالبيع فاسد، وما أكل مكروه؛ لأنه اشترى سكرًا غير مشار إليه فكان المبيع مجهولاً.ومن شرائط صحة البيع: أن يكون المبيع معلومًا.
4.أن يدفع له مبلغًا من المال، ولا يقول له اشتريت منك، ويأخذ كل يوم كيلو من اللحم وهو يعلم ثمن الكيلو.
الحكم: فهذا البيع جائز؛ لأنه بالتعاطي، ولا ينعقد البيع بمجرد الدفع وإن كانت نيته وقت الدفع الشراء، وإنما ينعقد عند قبض كل كيلو.
5.أن يدفع المشتري للبائع مالاً، ولا يقول له اشتريت، ويأخذ كل يوم كيلو من اللحم، وهو جاهل بالثمن.
الحكم: لا يصح هذا البيع؛ لجهالة الثمن عند العقد([7]).
المذهب المالكي:
قد ذكر المالكية ثلاث صور لبيع الاستجرار، أو لبيع أهل المدينة -كما يسمونه-، وهي:
1.أن يضع الإنسان عند البياع دراهم، ثم يأخذ بجزء معلوم من الدراهم سلعة معلومة. وهي مماثلة للصورة الرابعة عند الحنفية.
الحكم: هذا البيع صحيح؛ لأن السلعة معلومة والثمن معلوم. قال الإمام مالك-رحمه الله-: "لا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهمًا ثم يأخذ منه بربع، أو بثلث، أو بكسر معلوم سلعة معلومة"([8]).
2.أن يترك عند البائع دراهم، ويعقد معه عقدًا على سلعة معينة، على أن يأخذ منها شيئا فشيئًا كل يوم بسعره.
الحكم: فهذا البيع غير جائز؛ لجهالة الثمن عند العقد؛ لأن السعر يتغير من يوم لآخر. جاء في المنتقى نقلا عن الإمام مالك-رحمه الله-: "فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم، وقال الرجل آخذ منك بسعر كل يوم، فهذا لا يحل؛ لأنه غرر يقل مرة ويكثر مرة ولم يفترقا على بيع معلوم"([9]).
3. أن يقول له: آخذ بالدراهم منك كذا وكذا، ويعين معه سلعة ما، ويقدر ثمنها عند العقد، ويترك السلعة عند البائع، متى شاء المشتري أخذها.
الحكم: فبهذه الطريقة البيع جائز ولا خلاف فيه؛ لأن الثمن معلوم عند العقد والمبيع معين ومعلوم أيضًا([10]).
المذهب الشافعي:لبيع الاستجرار عند الشافعية صورتان:
1.أن يأخذ الإنسان من البياع ما يحتاجه شيئًا فشيئًا، ولا يعطيه شيئًا، ولا يتلفظان ببيع، بل نويا أخذه بثمنه المعتاد، ويحاسبه بعد مدة ويعطيه، كما يفعل كثير من الناس.
الحكم: فهذا البيع بهذه الصورة حكمه البطلان عند كثير من فقهاء الشافعية كالنووي -رحمه الله-؛ لأنه ليس بيعًا لفظيًا ولا بيعًا بالتعاطي.
2. أن يقول الإنسان للبياع: أعطني بكذا لحمًا أو خبزًا مثلا، فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به، ثم بعد مدة يحاسبه ويؤدي ما اجتمع عليه.
الحكم: فهذا البيع مجزوم بصحته([11]).
المذهب الحنبلي:
مسألة بيع الاستجرار ناقشها الحنابلة ضمن مسألة البيع بما ينقطع به السعر، أو البيع من غير تسمية الثمن، ومن أبرز الصور التي ذكروها صورتان هما:
1. أن يأتي رجل إلى البائع فيأخذ ما يريده شيئًا فشيئًا، ولا يسمي له ثمنًا، ولا يعقد معه بيعًا عند الأخذ، ثم يحاسبه بعد ذلك، ويتم البيع عند تسليم الثمن.
الحكم: هذه الصورة أجازها الإمام أحمد -رحمه الله-، وقال: لا بأس بها([12]).
2. أن يأخذ الرجل من البائع سلعة ما، ولا يسمي الثمن، ثم يمر عليه فيما بعد ويقول له اكتب ثمن السلعة.
الحكم: أجازه الإمام أحمد -رحمه الله-، إذا كان الثمن بسعر يوم البيع([13]). وإلى هاتين الصورتين أشار صاحب النكت بإسناده بقوله: "سُئل أحمد عن رجل يبعث إلى البقال، فيأخذ منه الشيء بعد الشيء، ثم يحاسبه بعد ذلك، قال أرجو أن لا يكون بذلك بأس، فلما سئل: أيكون البيع ساعتئذ؟ قال: لا"([14]).
إلا أن الراجح عند الحنابلة في البيع من غير تسمية الثمن البطلان، وعليه فيكون البيع في الصورتين السابقتين غير صحيح، كما ذكر المرداوي ذلك بقوله: "أو ما ينقطع به السعر، أي: لا يصح، وهو المذهب وعليه الأصحاب، وعنه يصح"([15]).
وذهب ابن تيمية وابن القيم –رحمهما الله- إلى جواز هاتين الصورتين؛ لأنه:
1.ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله r، ولا إجماع، ولا قول صحابي، ولا قياس صحيح ما يحرمه.
2.ثم إن هذا هو المنصوص عن الإمام أحمد -رحمه الله-، فقد اعتبر البيع صحيحًا -كما في النقل السابق عنه-.
الخلاصة والترجيح:
من خلال تتبع هذه الصور التي أوردها الفقهاء يتبين أن بيع الاستجرار وثيق الصلة بالتعاطي، إلا أنه أعم، لأنه قد يكون بإيجاب وقبول، وقد لا يكون بإيجاب وقبول كما هو الشأن في بيع التعاطي.كما أن الغالب في الاستجرار تأجيل الثمن وعدم تحديده في العقد.
وحكم هذا البيع يختلف باختلاف الصورة التي تم بها إلا أن مدار الجواز أو المنع متوقف على توفر عنصر المعلومية في الثمن أو المبيع وقبضه في الحال.
ولعل القول بالجواز أولى وأرجح، فالبيع صحيح استحسانًا ولجريان العرف به، وهو عمل الناس في كل عصر ومصر؛ ولأن الغالب أن يكون قدر ثمن الشيء معلوما للبائع والمشتري عند الأخذ والعطاء، وإن لم يتعرضا له لفظًا.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري المشهور بابن منظور، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، عام 1400م ، مادة (جرر) (4/125).
([2])حاشية رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار فقه أبو حنيفة، لابن عابدين، الناشر: دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 1421هـ - 2000م (حاشية ابن عابدين) (7/20).
([3]) منح الجليل شرح على مختصر سيد خليل، لمحمد عليش. ، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1409هـ - 1989م (3/36).
([4])إعلام الموقعين عن رب العالمين، لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: دار الجيل، بيروت، عام 1973م (4/5).
([5]) حاشية ابن عابدين ، مرجع سابق (7/30).
([6]) البيع بالتعاطي: أن يتقابض البائع والمشتري من غير صيغة، أي: أن البائع يعطي المبيع ولا يتلفظ بشيء، والمشتري يعطي الثمن كذلك. انظر: مواهب الجليل ، مرجع سابق(4/228).
([7]) انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق لزين الدين ابن نجيم الحنفي، الناشر: دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، بدون تاريخ (5 / 279)، الموسوعة الفقهية، مادة: (بيع)، (9/34)، ضوابط الثمن وتطبيقاته في عقد البيع بحث منهجي مقارن، لسمير عبد النور جاب الله، الناشر: دار إشبيليا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، لعام 1426هـ - 2005م، ص (215-216).
([8]) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، لأبي الوليد: سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي الأندلسي، الناشر: دار الكتاب العربي، لبنان، بيروت، وهي طبعة مصورة من الطبعة الأولى التي طُبعت عام 1332هـ (5/15).
([9]) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، مرجع سابق (5/15)، وانظر: الموطأ، للإمام مالك بن أنس الأصبحي، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان، الطبعة الأولى، عام 1425هـ - 2004م (4/941).
([10]) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة، وانظر: االمدونة الكبرى، للإمام مالك بن أنس الأصبحي، رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن قاسم، ويليها مقدمات ابن رشد لبيان ما اقتضته المدونة من الأحكام للإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، ضبطه وصححه: أحمد عبد السلام، الناشر: دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 1415هـ - 1994م (4 / 292).
([11]) انظر: المجموع شرح المهذب لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، الناشر: دار الفكر، ببيروت، الطبعة الثالثة، عام 1997م (9/ 150– 151)، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد الخطيب الشربيني، دار النشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، عام 1990م (2/ 4)، أسنى المطالب، لأبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي، تحقيق د . محمد محمد تامر، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1422هـ ت 2000م (2/ 3).
([12]) شرح منتهى الإرادات، المسمى دقائق أولي النهى لشرح المنتهى، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، الناشر: عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثانية عام 1996هـ (2/18).
([13]) شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق، (2/19).
([14]) انظر: النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر، لأبي عبد الله: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، شمس الدين المقدسي ، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، عام 1416هـ، (1/298) بتصرف. وانظر: شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق (2/19)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، لمصطفى السيوطي الرحيباني، الناشر: المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الأولى، عام 1961م (3/40).
([15]) أي: عن الإمام أحمد، وانظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي الحسين علي بن سليمان المرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1988م ، (4/310).