مسألة التقادم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399هـ، إلى الحادي والعشرين منه نظر المجلس في موضوع[ التقادم في مسألة وضع اليد]. واطلع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع بناء على ما تقرر في الدورة الثالثة عشرة.. واستعرض أقوال أهل العلم في مختلف المذاهب، وكان من أوضحها ما ذكره العلامة ابن القيم –رحمه الله- في كتابه[ الطرق الحكمية] حين قال: فصل: الطريق الثالث: أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عيناً في يده فأنكر فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد؛ ولهذا شرعت اليمين في وجهته، فإن اليمين تشرع في جنب أقوى المتداعيين هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة فإن كذبتها لم يلتفت إليها وعلم أنها يد مبطلة، وذلك كما لو رأى إنساناً يعدُو وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة وآخر خلفه حاسر الرأس ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس- فإننا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر ولا يلتفت إلى تلك اليد، ويجب العمل قطعاً بهذه القرائن، فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظناً البتة فكيف تقدم على ما هو مقطوع به أو كالمقطوع به؟ كذلك إذا رأينا شخصاً يقود فرساً مسرجاً، ولجامه وآلة ركوبه ليست من مراكبه في العادة ووراءه أمير ماش، أو من ليس ممن عادته المشي فإننا نقطع أن يده مبطلة، وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها. كما إذا رؤي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه وادعى أنها ملكه وفي يديه لم يلتفت إلى ملك اليد.
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها. فإذا قضينا باليد فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها، وإذا كانت اليد ترفع بالنكول وبالشاهد الواحد مع اليمين وباليمين المردودة فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى.
فهذا مما لا يرتاب فيه أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ووضعهما بين عباده، فالأيدي ثلاث: يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها. الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة فلا تسمع الدعوى عليها، كمن يشاهد في يده دار يتصرف فيها أنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب مع عدم سطوته وشوكته فجاء من ادعى أنه غصبها منه واستولى عليها بغير حق وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه ولا يفعل ذلك- فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي وأن يد المدعى عليه محقة.
هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة وهو الصواب. قالوا:إذا رأينا رجلاً حائزاً لدار متصرفاً فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء والإجارة والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر أن له فيها حقاً ولا مانع يمنعه من مطالبته من خوف سلطان أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عارياً عن ذلك أجمع ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلاً فضلاً عن بينته وتبقى الدار في يد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.
قال تعالى: " وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" [سورة الأعراف: الآية991]، وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك في هذا الموضوع وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة فقد حددها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم. واصبغ بعشر سنين، وربما احتج لهم بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:" من حاز شيئاً عشر سنين فهو له" وهذا لا يثبت.
وأما مالك رحمة فلم يوقت في ذلك حداً ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام. الثالثة: يد محتمل أن تكون محقة وأن تكون مبطلة فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها فالشارع لا يغير يداً شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يداً شهد العرف بكونها محقة.
واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى، والله أعلم.
فالشارع لا يعين مبطلاً، ولا يعين على إبطال الحق ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها. وما ذكره ابن القيم-رحمه الله- هو قول كثيرين من أهل العلم -رحمهم الله-.
وحيث إن المجلس لا يعلم نصاً شرعياً خاصاً في تحديد مدة تملك الشيء المعين الذي بيد إنسان وليس لديه إثبات الملكية سوى طول المدة، وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكاً له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية.
ونظراً لأن هذه المسألة من المسائل التي تبنى على العرف، وعلى قاعدة سد الذرائع، وأن الحكم في كل صورة من صورها يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال- فإن المجلس يرى عدم تحديد مدة معينة تكون أساساً يبنى عليها القضاة أحكامهم، بل يترك فيها على حسب اختلاف ظروفها وملابساتها وبناها على القاعدة الشرعية التي يمكن أن تنطبق عليها.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

هيئة كبار العلماء (*)
-----------------------
(*) رقم (68) وتاريخ 21/10/1399هـ