الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، نحمده سبحانه على ما أكرمنا به من ميراث النبوة، ونشكره على ما هدانا إليه لما هو أصل في الدين، وهو العلم الذي هو أنفس الأشياء، وأجلُّ مكتَسبٍ في الأرجاء، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المرجع والمآل، وبعد:
فقد شاع في هذا العصر عملية بيع البيوت أو المخازن أو الشقق خاصة ونحوها على المصورات، والذي دفع الناس إلى ذلك -بالإضافة إلى ما يسمى بـ (أزمة السكن)- الرغبة في سعر أدنى من جهة، ومن جهة أُخرى عجز المشتري عن شراء البيت بدون تقسيط ثمنه، وعجز البائع أحيانًا عن تمويل مشروع سكني بكامله بمفرده. وسأتطرق لهذا الموضوع في المطلبين التاليين:
المطلب الأول
صورة البيع على المصورات الفعلية المعاصرة
شركة تبيع عقارات (شقق، مخازن، منازل، فلل، متاجر) على الخريطة (قبل الإنشاء والبناء لهذه العقارات)، وهي تتبع الخطوات التالية في بيعها لهذه العقارات على المصورات:
1. تشتري الشركة قطعة أرض معلومة صالحة للبناء، وتقوم بتحضيرها للبناء، وذلك بالقيام بالدراسات، واستخراج الرخص، ودفع الضرائب...إلخ، ويكون ذلك كله على نفقتها.
2. بعد أن تنهي الشركة جميع المعاملات بشكل سليم، ويصبح بإمكانها البدء في تشييد العقارات تعلن للناس عن استعدادها لبيع هذه العقارات قبل الشروع بعملية البناء أو بعده بيسير.
3. يحضر الشخص الذي يرغب بالشراء إلى مكتب هذه الشركة، فيتم إطلاعه على النقاط التالية:
· موقع الأرض المنوي تشييد البناء عليها، وربما رأى الأرض بنفسه وعاينها.
· خرائط وصور ومجسمات دقيقة تبين المساحة وشكل المشروع كله.
· خرائط وصور دقيقة تصف العقار وصفا دقيقًا يتضمن: مكانه ضمن المشروع (الطابق، الجهة، على ماذا يشرف، المساحة الإجمالية، عدد الغرف، نوع المواد المستعملة (الأبواب، البلاط، الدهان...).
4. يتم الاتفاق بين الشركة البائعة والزبون على الأمور التالية:
· تحديد ثمن العقار بمبلغ معين، وبعملة معينة.
· يدفع الزبون جزءًا من الثمن يعتبر دفعة أولى حين التوقيع على عقد البيع، وأحيانًا لا توجد دفعة أولى.
· يتم الاتفاق على تقسيط باقي المبلغ على أقساط شهرية أو سنوية معلومة، لمدة معلومة.
· يتم الاتفاق على أجل معلوم بالأشهر أو بالسنين لتسلم المبيع(1).
المطلب الثاني
التكييف الفقهي لبيع البيوت على المصورات
ذكرت فيما سبق أن بيع المعدوم لا يصح إلا بصورة عقد السلم. والتي تقتضي دفع كامل القيمة سلفًا في مجلس العقد. وذكرت أن عقد الاستصناع عند الحنفية يفتقر إلى قوة الإلزام العقدي في أكثر مراحله، مما يجعل المتعاقدين عرضة للتنازع والضرر، بالإضافة إلى أن الحنفية اشترطوا في الاستصناع أن يكون مما جرى به التعامل.
فقد قال الكاساني: "ومنها –أي: من شروط عقد الاستصناع- أن يكون مما جرى به التعامل بين الناس، من أواني الحديد والرصاص والنحاس والزجاج والخفاف والنعال، ....وإنما جوازه استحسانًا لتعامل الناس"(2).
وقد نص مجمع الفقه الإسلامي(3) في معرض بيانه للطرق المشروعة لتوفير السكن: "أن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع -على أساس اعتباره لازمًا- وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه، بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع، دون وجوب تعجيل جميع الثمن، بل يجوز تأجيله بأقساط يُتفق عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة بعقد الاستصناع لدى الفقهاء، الذين ميزوه عن عقد السلم(4).
هذا الذي ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي، وهو إدراجهم مسألة بيع البيوت على المصورات بالتقسيط تحت عقد الاستصناع هادفًا في ذلك المساعدة على توفير السكن لمن لا يملكون القدرة على شرائه بدفع القيمة الكاملة، ويرى بعض العلماء المعاصرين بما أن هذا هو الهدف من إصدار هذا القرار، فإنه يمكن تحقق هذا المقصود وفق تصور آخر لكون هذا القرار يبقى لونا من بيع المعدوم وهو بيع منهي عنه في قوله r: "لا تبع ما ليس عندك"(5).الذي اتفقت كلمة الفقهاء على منعه، بل وعدوه شكلا من أشكال بيع الكالئ بالكالئ الممنوع شرعًا واقترح بعضهم بديلاً آخر؛ خلاصته: جعل ثمن الأقساط يتوجه إلى شراء مواد البناء في كل مرحلة من المراحل التي يمر بها البناء، فبدلاً من أن يكون الاتفاق مع (العميل) على أن يدفع كل شهر مثلاً خمسة آلاف ريال، فالبديل أن يوكل (هذا العميل) بشراء مواد البناء التي تحتاجها المرحلة الآتية التي وافقت ذلك الشهر... وهكذا.
الخلاصة والترجيح
القول في هذا ينزل على ما قيل في حكم الاستصناع في أن جمهور العلماء- من المالكية(6)، والشافعية(7)، والحنابلة(8)، - يحرمون ذلك، وأن الحنفية(9) ذهبوا إلى القول بالجواز، ورجحت مذهب الحنفية لما ظهر لي من قوة أدلتهم، وأن الحاجة داعية لذلك، وفي منعه من إلحاق الحرج بالناس ما لا يخفى، ولظهور ضعف أدلة المانعين بما ورد من مناقشتها هناك. خاصة أن الجهالة هنا منتفية تماما بما يتم قبل ذلك من رؤية للمخططات وذكر للتفاصيل الدقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي:
(1)البيوع الشائعة وأثر المبيع على شرعيتها للطتور محمد توفيق رمضان البوطيي، الناشر درا الفكر ، الطبعة الثالثة، عام 1425هـ - 2005م ، ص (183)، صور من البيوع المحرمة والمختلف فيها، لمحمد بن علي حلاوة، الناشر: مكتبة عباد الرحمن، مصر، مكتبة العلوم والحكم مصر، الطبعة الأولى، عام 1425هـ - 2004م ، ص (81).
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين الكاساني، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، عام 1982م، (5/3).
(3) المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة 17-23/شعبان، بتاريخ 1410هـ، 14-20آذار 1990م، في قراره ذي الرقم (52/1/6)، وفي البند (د)، وانظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد السادس، الجزء الثاني، لعام 1410هـ.
(4) الفقه الإسلامي وأدلته، الشامل للأدلة الشرعية، والآراء المذهبية، وأهم النظريات الفقهية، وتحقيق الأحاديث النبوية وتخريجها، وفهرسة ألفبائية للموضوعات وأهم المسائل الفقهية، تأليف الدكتور: وهبة الزحيلي، الناشر: دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، الطبعة الثانية، عام 1405هـ - 1985م، (9/569).
(5) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب البيوع، باب العينة وما يشابهها، (2/642)، رقم (1315)، وأبو داود في سننه، في كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، (2/305)، رقم (5303)، والترمذي، في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك، (3/534)، رقم (1232)، والنسائي في سننه، في كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع (7/279)، رقم (4613)، وابن ماجه في سننه، في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن، (2/737)، رقم (2187)، والبيهقي في السنن الكبرى، في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وبيع ما لا تملك، (5/339)، رقم (10637)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته، (1/1317)، رقم (13162).
(6) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، لأحمد بن غنيم بن سالم النفراوي المالكي، دار النشر: دار الفكر ، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1415هـ (2/117)، منح الجليل شرح على مختصر سيد خليل، لمحمد عليش. ، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1409هـ - 1989م (7/517)،
(7) الأم، للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، الناشر: دار المعرفة، لبنان، بيروت، الطبعة الثانية، عام 1393هـ (3/131)، الأشباه والنظائر للسيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر الشافعي، الناشر دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى عام 1399هـ (1/99).
(8) الفروع وتصحيح الفروع، لأبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1418هـ (4/18)، كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، تحقيق: هلال مصيلحي مصطفى هلال، الناشر: دار الفكر، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1402هـ (3/165).
(9) بدائع الصنائع (5/2) مرجع سابق، البحر الرائق شرح كنز الدقائق لزين الدين ابن نجيم الحنفي، الناشر: دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، (6/185)، المبسوط، لشمس الدين محمد بن أبي سهل السرخسي، الناشر: دار المعرفة، لبنان، بيروت،الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م (12/140).