سورة النّور وأسوار الفضيلة
6 صفر 1433

سورة النّور واحدةٌ من أعظم سور القرآن العظيم، وبسبب إشارة اسمها لمعاني النور الإلهيّ الّذي يغمر الكون، والمأخوذ من قوله تعالى في السورة: {الله نور السَّموات والأرض}، لم يُطلق عليها العلماء والمفسرون اسماً آخر، اللّهم إلا أن يقفوا على عادتهم عند الكلمة الأولى من آيتها الأولى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] فيقفون عند كلمة (سورة) ويؤوّلونها بمعنيين: المعنى الأول: سورة، أي من السُّموِّ والعلو، وفي هذا دلالةٌ على رفعة مكانتها، وتكنيةً من الله بأنَّ شأن هذه السُّورة عظيم، لما حوت من آداب، وأحكام، وقيم، ومبادئ. والمعنى الثَّاني مبنيٌّ على المعنى الأول، فهي سورة بمعنى سور وجدارٍ، فسورة النُّور بما تتضمّنه من تلك القيم تبني أسواراً وجدراً حصينة، تحمي الفضيلة، والسِّتر، والنَّقاء.

 

وفي إطار هذا المعنى التّدبري صدرت رسالة تدبّريّة لطيفة لأخينا الشيخ عصام العويد، أسماها: (أسوار العفاف: قبس من سورة النُّور) وهي رسالة صغيرة الحجم جمّة الفوائد، أنصح الجميع باقتنائها وقراءتها والاستفادة منها، فالشيخ عصام، من المعتنين بتدبر القرآن، وقد وُفّق في اختيار اسمٍ لهذه الرسالة دالٍّ على مضمونها الرائع، وحقّاً فإن من يلتزم بأحكام سورة النُّور، فكأنَّه أحاط نفسه وزوجه وبناته وأبناءه ومحارمه بسورٍ عالٍ من العفاف، والطُّهر، والنَّقاء.

 

وسورة النور مدنيّة، نزلت كلّها بالمدينة المنورة في عهد البعثة النبوية، بيد أنّك عندما تتدبّر آياتها، يغمرك الشعور بأنّها لم تنزل إلا في الظرف الرّاهن الّذي تعانيه الأمة الإسلاميّة في جميع أقطارها، خاصّةً ما ورد فيها متعلّقاً بأمر المرأة المسلمة، التي باتت مستهدفةً من أعداء الإسلام، أعداء الفضيلة والشَّرف، من العلمانيين والليبراليين الّذين اتّخذوا من وسائط الإعلام والصَّحافة مرصداً، يطلقون منه سهامهم نحو المرأة المسلمة التي هي صمام الأسرة والمجتمع.

 

ومن عجبٍ أنَّ سورة النور كما وقفت تشدّ من أزر المرأة المسلمة، منافحةً عن شرفها وعفافها، كذلك وقفت من الجهة الأخرى في مواجهة جماعة المنافقين، محذّرةً من مكايدهم ودسائسهم، التي تدفعهم لها رغبتُهم في خلخلة قواعد المجتمع المسلم، عن طريق النّيل من قيمه وأخلاقه، هذا ما تنبؤنا به سورة النور في الآية التاسعة عشرة منها، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، ونحن نرى هؤلاء الآن عبر وسائل الإعلام والصُّحف، يفرحون بما يصيب المجتمع المسلم من مظاهر الفتنة والفساد، فتجيء سورة النُّور لتفضحهم وتبين حقيقةَ حالهم، وتحذّر من خطورة عملهم على المجتمعات، وتتوعَّدهم بعذاب أليم، في الدُّنيا: بإقامة الحدود عليهم، وفي الآخرة: بعذاب النار وبئس المصير.

 

ومن جملة اهتمام سورة النُّور وعنايتها بأمر المرأة المسلمة، ما ورد فيها من توجيهاتٍ مفصّلة تضبط العلاقات داخل المجتمع المسلم بين الرجال والنساء، فمن ذلك أنَّها أمرت كلاً منهما بغضَّ الأبصار، ويُلحظ أنّ بعض النِّساء يطلقْنَ أبصارهنَّ، يحسبن أنَّ الأمر بغضَّ البصر موجّه للرِّجال دونهنّ، وهناك فارق كبير بين غضِّ البصر وتغميض العين، ولا شكّ أنّ الغضَّ أبلغ، فلذلك استعمله الله عزّ وجلّ في كتابه، فقال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: من الآية30]. {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: من الآية31].

 

إنّ مطموسي البصائر هؤلاء، لا يعرفون العلاقة بين لباس المرأة وحجابها وعفافها وخُلقها، وبين حريتها وارتقائها، ولا يعرفون أنّ سد باب الرذائل الأخلاقية، هو فتح لباب الارتقاء في الخلق والحضارة، وهذا المعنى الكبير هو ما خطر لأحد الإخوة من طلاب العلم، لما قرأ قوله تعالى من سورة النور: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: من الآية31] ، ولاحَظ هذه العناية بأصوات الخلاخيل التي تنبعث من تحت ثياب النساء، فعبّر قائلاً: شريعةٌ اعتنت بصوت الخلخال يصدر عند مشي النساء، لا شكّ معنيّةٌ بكلّ ما يحقّق لها وللمجتمع كلّ معاني الرّقيّ! وقد انقدح في خاطري بمناسبة هذا التعليق الجميل، هذا الاستنباط: إذا كان الخلخال وصوته المنبعث منه، ممّا ينبغي إخفاؤه في الشرع، فكيف يجوز كشف الوجه الّذي هو أساس فتنة المرأة وجاذبيّتها؟

 

ومن الدِّقائق التي تناولتها سورة النُّور، عند فضحها للمنافقين، وكشفت عوراتهم، قول الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:48-51]. فهذه الآيات تصوّر مشهداً كثيراً ما نراه متجسداً في واقعنا، حيث نرى في واقعنا فئةً من النّاس تعيش في مجتمعنا، ولا ترضى بقيمه وأخلاقه النابعة من عقيدته الإسلامية، فهي تترصد بالصالحين في المجتمع، تريد النّيل منهم، وعبرهم تريد النيل من قيم المجتمع كلّه، فهؤلاء إن بدا لهم الحقّ مرةً؛ أتوا مسرعين بأقوالهم، وحججهم، وبراهينهم، وبأقوال المشايخ، والعلماء، يستشهدون بهم وبمواقفهم هذه المرَّة، مع أنَّهم أشد النَّاس عداوةً لهم، يريدون تحقيق أهدافهم وأغراضهم بأية وسيلة ممكنة، ثمّ إذا دُعوا إلى شرع الله ودينه أعرضوا، ذلك لأنَّ قلوبهم موبوءة بمرض النِّفاق والشّك والارتياب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.