في سورة الكهف العجيبة، وبعد سرد أحداث قصَّة أصحاب الكهف، تجيء مباشرةً هذه الآية الكريمة: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27]، فكأنّها تقولُ لك: يا مَن تدبّرت في القرآن، وقرأت منه قصّة أولئك الفتية، ورأيتَ كيف أفاء اللهُ عليهم من نعمائه، إذ آواهم إلى ذلك الكهف، وهيَّأ لهم سبيل الرّاحة فيه، بعد أن جعله لهم سبيلاً للنَّجاة من البلاء الرّهيب، اعلمْ أنّ الابتلاء كما وقع بهم، فهو واقعٌ بك، واعلم أنّه كما آواهم الله عزّ وجلّ إلى الكهف، فهذا القرآن هو مأواك!
بلى، هذا هو المعنى الّذي يتداعى عبر تتبُّعنا لآيات سورة الكهف، وانتقالنا معها من القصّة إلى ما بعدها، حيث نجد هذه الآية الكريمة: : {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27]، والملتحدُ هو الملجأ والملاذ، وحقّاً سورة الكهف كهفٌ وملجأ من فتن آخر الزّمان، والقرآن كلّه كهفٌ ومأوى من الفتن والبلايا والرزايا.
وتلاوة آيات القرآن هي الطريق إلى هذا الكهف، وتدبُّر آياته هو بوابة دخوله، وهذا يكشف لنا عظم أمر التّلاوة، ولذلك عدّ ابن القيِّم -رحمه الله- عدم التّلاوة مرتبةً من مراتب هجر القرآن، الّذي شكا منه الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى ربّه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الكهف: 30 ] فالتًّلاوة هي مفتاح التَّدبر وفاتحة العمل والطريق إلى التَّحكيم ووسيلة الاستشفاء، ومن أجل تحقيق غاية التدبر، ورد النَّهي عن تلاوة القرآن وختمه في أقلِّ من ثلاثة أيام، بلى نعلم أنه قد ورد عن بعض السَّلف، أنَّهم كانوا يختمون في كلِّ ليلة، وخاصةً في رمضان، ومذهب جمهور العلماء أنّ هذا يُعتبر استثناءً من القاعدة العامة، وأنَّ أولئك الّذين رُوي عنهم تلاوته في أقلّ من ثلاث، أُناسٌ لهم قابليّات كبيرة، وقد أخذوا أنفسهم بالرّياضة والمجاهدة، وقد ورد عن بعض السَّلف أيضاً، أن لا يتجاوز الإنسان أربعين يوماً في الختمة، ونحن مع الأسف نشهد إعراضاً عن تلاوة القرآن، فلا نجد كثيراً من المسلمين يتعاهدونه بالتلاوة والختم، ولو في حدود أربعين يوماً، إلا في شهر رمضان، أو في أحيانٍ عارضة إذا وجد أحدهم عنده فراغاً من وقته، أو بَكَّر يوماً إلى المسجد، فإنَّه يتلو القرآن، ولا يجدر بنا أن يكون هذا موقفنا من كتاب ربّنا -جلََّ وعلا- ألا فلنقبل على كتاب الله تلاوة وتدبُّراً وعملاً.
وبعد الحثّ على تلاوته، يجيء تقرير حقيقة أنّه: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي أنّ الله -عزََّ وجلََّ- قد حفظ كتابه من التََّبديل والتَّحريف، كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. فهاهنا وقفة تدبُّريَّة، تُشير إلى أنَّ هناك من يحاول تبديل كلام الله، وأنّه لا يستطيع أحدٌ ذلك، لأنّ الله عزّ وجلّ قد حفظه من التّحريف، وعندئذٍ فالزَّائغون يلجؤون إلى تحريف معانيه بالتَّأويلات الباطلة، ويتَّبعون ما تشابه منه ويصدُّون عن محكمه، وهذا نوع من التَّبديل.
{وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي: فلن تجد من دون الله وكتابه ملتحداً ملجأً وموئلاً تأوي إليه، فسورة الكهف والقرآن كلّه ملاذنا وعزُّنا ومجدنا، ودستور حياتنا، وسرُّ سعادتنا، فإذا لم نعظمْه، ولم نعمل به، ولم نتخلق بأخلاقه، فأيُّ قيمةٍ وأيُّ وزنٍ يكون لنا بين الأمم؟ وقد وقف ذات يومٍ رئيس الوزراء البريطاني جلادستون في مجلس العموم البريطاني، وهو يشرح خطة الاستعمار البريطانى في العالم الإسلامي، قائلاً: "ما دام هذا القرآن موجوداً بين أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوروبة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان".
فلماذا لا نلجأ إلى الله عزّ وجلّ في سرَّائنا وضرَّائنا، ونتّبعَ آياته وكتابه؟
لماذا يلجأ بعض النّاس إلى المناهج الغربية ويدعون القرآن خلفهم ظهريّاً؟
لماذا تلجأ بعض الدُّول إلى أعداء الله من اليهود والنَّصارى في الشَّرق والغرب؟
فهل يعي المسلمون عظمة هذا القرآن، فيقومون بحقه، آناء الليل وأطراف النهار؟
ثمَّ يقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. فبعد الدّعوة إلى تلاوة القرآن وتعظيمه والاستمساك به، تجيء هذه الآية الكريمة لتصحح موازين القيم المختلَّة، عند كثير من النَّاس، في هذا الزَّمان، بسبب سيطرة الأفكار المادّية، فصار النّاس يقيًّمون النَّاس، بوظائفهم أو بقبائلهم أو ببلدانهم، أو بأموالهم، فتجيء هذه الآية لتردّ الأمور إلى نصابها: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وممّا يدعو إلى العجب أنَّ الضُّعفاء والمساكين، هم أتباع الأنبياء والرُّسل، ولذلك نظر الكافرون إليهم نظرة احتقار وسخرية، كما فعل قوم نوح عليه الصَّلاة والسَّلام وسمَّوْهم بالأرذلين، وفي نظر الخالق عزّ وجلّ وفي ميزان الحق، هم الأعلون، وهم الفائزون، وهم المفلحون في الدُّنيا قبل الآخرة، وفي حديث أبي سفيان لمّا استدعاه هرقل عظيم الروم، وقال له: "وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ"، قال هرقل: "وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ".
فهذه الآية الكريمة: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} يقول المفسرون أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شأن جماعة من ضعفاء المسلمين، مثل صهيبٍ وبلال، قال له المشركون: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك! فجاء القرآن مدافعاً عنهم: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، ونزلت الآية الكريمة: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي يريدون وجه} ولم تقف الآية عند هذا الحدّ، بل قالت للرّسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي: ولا تشعرهم بأنَّك قد مللت منهم، بانصراف نظرك عنهم يميناً وشمالاً، بل اجلس معهم، وأشعِرهم بحبِّك للجلوس معهم!
{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فكم من النَّاس الآن يتطلعون إلى زينة الحياة الدنيا، أكثرَ مما يتطلَّعون لزينة الآخرة!
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} فُرُطاً، أي: ضياعاً في ضياع، بين جفاء وغلوّ، بعيداً عن الوسط العادل المحكم، ولينظر كلُّ واحد منا الآن إلى حاله، ويتساءل عن عمله ووقته وسائر أمره، أهو محكم أم فرُطٌ؟
فهي رسالةٌ لك: إذا أردت أن تعرف من تتَّبعه وتقتدي به؛ فانظر إلى سائر أمره وشأنه كله، إن وجدته قد أحكمه فذاك هو! وإن كان في ضياع؛ فاربأ بنفسك عنه!
ففي قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} حثٌ على المداومة في طاعة الله، وفي قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حثٌّ على الإخلاص، وفي قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} أنَّ من لا يذكر الله، فقد طُبع على قلبه، والنتيجة: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
ثم بعد تقرير هذه الوصايا المهمَّة، يجيء الأمر بملازمة الصَّبر: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} فالدَّعوة تحتاج إلى الصَّبر، لذا نجد كثيراً من الدعاة يبتعدون عن ميدان الدعوة، بسبب قلَّة صبرهم على ما فيه من معوّقات، وعدم صبرهم على مخالطة الناس خشية أذاهم، ولذلك قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الذي يخالط النَّاس، ويصبر على أذاهم، خيرٌ من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم) ومن الخطأ الشائع ظنّ البعض أنَّ الصَّبر عملٌ سلبيٌ، بل هو عمل إيجابي، فالصبر في القرآن الكريم قد نوّه به ودُعي إليه وحُثَّ عليه في نحو تسعين موضعاً، فالله تعالى يقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60 ]. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] ويقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] ويقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
إنَّ كثيراً من مشكلاتنا الأسرية والاجتاعية والسياسية، سببها عدم الصبر، عدم الصَّبر مع الزّوج أو الزوجة، أو مع الأبناء، وعدم الصَّبر مع المسؤولين والولاة، ألا فلنصبر ولنحتسب!
ختاماً، هذه الآيات التي عشنا في ظلالها: نور وبيان ونبراس وهداية، فلنستضئ بهذا النُّور، ولنهتدِ به في طريق حياتنا، ولنحمله إلى من هم حولنا، ولنصبر على ما نلقاه من الأذى.
والحمد الله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك، على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.