دروس الحج 4: صفة الحج
8 ذو الحجه 1432
د. نهار العتيبي

الحديث : قال جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين، لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس ، محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أصنع ؟ قال: اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينـزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به.

 

فأهلَّ بالتوحيد ؛ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة. حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرَمَلَ ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } (البقرة:125) فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول: - ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين: { قل هو الله أحد } و{ قل يا أيها الكافرون } ثم رجع إلى الركن، فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: { إن الصفا والمروة من شعائر الله } (البقرة:158) أبدأ بما بدأ الله به ؛ فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله، وكبره، وقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى إذا صعدتا، مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة، كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي، فليحل، وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال: يا رسول الله ! ألعامنا هذا، أم لأبد ؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه، واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج ، مرتين، لا بل لأبد أبد.

 

وقدم عليٌّ من اليمن ببُدُن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حلَّ، ولبست ثيابًا صبيغًا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال، فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشًا على فاطمة للذي صنعت، مستفتيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ قال: قلت: اللهم إني أُهلُّ بما أهلَّ به رسولك، قال: فإن معي الهدي، فلا تحل .

 

قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليٌّ من اليمن، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية، توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنـزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء، فرحلت له. فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

 

ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا ؛ دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعًا في بني سعد، فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله.

 

وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد ، ثلاث مرات. ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام - حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس ! السكينةَ السكينةَ ، كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسَبِّح بينهما شيئًا.

 

ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح. بأذان وإقامة ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا، فدفع قبل أن تطلع الشمس. وأردف الفضل بن عباس ، وكان رجلاً حسن الشعر، أبيض وسيمًا، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت به ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل ، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي. ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًا ، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قِدْرٍ، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر. فأتى بني عبد المطلب ، يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنـزعت معكم ، فناولوه دلوًا فشرب منه .

 

أهم الفوائد والأحكام :
أولاً : وجوب الإحرام من الميقات لمن أرد الحج أو العمرة  :
دل هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً بين الحج والعمرة وهذا يستدعي بيان صفة العمرة وأحكامها ثم بيان أحكام الحج بعد ذلك .
فالعمرة  هي : أنه يستحب للمسلم أن يتنظف ويزيل شعر إبطيه وعانته ويقصر من شاربه ويقلم أظافره , ويغتسل ويتطهر ويتطيب في بدنه دون ثيابه ثم  يحرم من ميقاته الذي مرّ به بعدما يلبس ملابس الإحرام , ويسن له أن يلبي بتلبية  النبي صلى الله عليه وسلم لقول جابررضي الله عنه  ( فأهلَّ بالتوحيد ؛ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) وإن لبى بغير ذلك فلا بأس . ثم يطوف بالبيت سبع أشواط يبدأ بمحاذاة الحجر الأسود ويكبر جاعلاً البيت عن يساره ويسن له الإضباع في طوافه ويسن له الرمل في الثلاث أشواط الأولى وإن تيسر له تقبيل الحجر الأسود أو استلامه بيده وتقبيل يده أو بعصا ونحوها وتقبيل العصا فإنه مستحب وإن كان في ذلك مشقة عليه أوعلى المسلمين فلا يفعل , ويستحب للمسلم استلام الركن اليماني دون تقبيل إن تيسر له ذلك ,لما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين,  ويستحب له أن يدعو بين الركنين لما رواه النسائي من حديث عبد الله بن السائب، قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } .
 ثم يصلي ركعتين حلف مقام إبراهيم إن تيسر له ,وإلا صلى في أي مكان في المسجد ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة الكافرون وفي الثانية بسورة الإخلاص , ويسن له أن يرجع إلى الركن ، فيستلمه إن تيسر له ذلك . ثم يذهب إلى الصفا ويقرأ: { إن الصفا والمروة من شعائر الله } (البقرة:158) ويرقي عليه، ويستقبل القبلة، ويوحد الله تعالى ، ويكبره، ويقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك . ثم ينزل إلى المروة فإذا بلغ العلمين سعى بينهما سعياَ شديداً ويفعل على الصفا ما فعله على المروة , ويسعى سبعة أشواط ذهابه شوط ورجوعه شوط ثم يحلق رأسه أو يقصر ويتحلل من عمرته .

 

ثانياً : صفة الحج للمتمتع والقارن والمفرد :
أما بالنسبة للمتمتع فإنه يؤدي العمرة كما مر سابقاً ويحل من إحرامه ويحل له كل شيء , ويبقى كذلك حتى يحرم يوم التروية أما القارن والمفرد فإن طافا طواف القدوم فإنه بالنسبة لهما سنة لحديث عروة بن مُضَرِّس رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( من شهد صلاتنا هذه - يعني بالمزدلفة – فوقف معنا حتى ندفع , وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً , فقد تم حجه وقضى تفثه ) متفق عليه . وإذا سعى المفرد والقارن فإن سعيهما يكفي عن سعي الحج فإنه ليس عليهما إلا سعياً واحداً للحج وطوافاً واحداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : ( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ) متفق عليه . وقد كانت رضي الله عنها قد أحرمت بالعمرة فحاضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج فأصبحت قارنة , أما المتمتع فإن عليه طوافان وسعيان أحدهما للعمرة والآخر للحج .

 

ثالثاً : يحرم الحجاج المتمتعون يوم التروية وأما المفرد والقارن فإن كانوا قد أحرموا قبل يوم التروية فإنهم باقون على إحرامهم وإلا أحرموا مع الحجاج يوم التروية , والإحرام يوم التروية مستحب , والسنة أن يصلي الحاج بمنى خمس صلوات ؛ وليس من السنة جمع تلك الصلوات . ويُسن للحاج أن يبيت بمنى ليلة التاسع من ذي الحجة، ليلة الوقوف بعرفة ، وهذا المبيت سنة، ولو تركه فلا دم عليه ، بالإجماع . والسنة للحاج أن لا يخرج من منى حتى تطلع شمس يوم عرفة، وهذا باتفاق أهل العلم .

 

رابعاً : يدفع الحجاج من منى إلى عرفة بعد طلوع شمس يوم التاسع ملبيّن , ولا يكفي الحاج الوقوف بنمرة لأن نمرة ليست من أرض عرفات ؛ فلو وقف فيها الحاج لم يجزئه ذلك , ولم يتم حجة لتركة ركن من أركان الحج وهو الوقوف بعرفة . ويصلي الحاج الظهر والعصر قصراً ويجمعها جمع تقديم , ثم يتفرغ للدعاء مستقبلاً القبلة رافعاً يديه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) رواه الترمذي .

 

خامساً : إذا غربت الشمس يدفع الحجاج متوجهون إلى المزدلفة وتسمى (جمع ) ويسن للحاج بعد الوصول إلى المزدلفة أن يؤدي صلاة المغرب والعشاء ، جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين ولا يصل بينهما شيئاً لما رواه مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : ( جمع رسول الله بين المغرب والعشاء بجمع ( أي : المزدلفة ) ليس بينهما سجدة ؛ فصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين ) .ثم من السنة أن ينام ولا يستحب له قيام الليل وإنما يكتفي بالوتر حتى آذان الفجر , ثم يستقبل القبلة ويدعو حتى يسفر جداً , ويدفع قبل أن تطلع الشمس .
ومن أدرك صلاة الفجر في المزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك في عرفة في النهار أو في الليل فقد أدرك الحج لحديث عروة بن مُضرّس رضي الله عنه فقد أدرك صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد معنا هذه الصلاة يعني صلاة الفجر بجمع ووقف معنا حتى يفيض منه , وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا , فقد تم حجه وقضى تفثه ) . وهذا يدل على أن الإتيان بهذا الركن يكون في يوم عرفة بأكملة شاملاً ليلة مزدلفة حتى الفجر , أما الوقوف بعرفة لمن وقف نهاراً إلى غروب الشمس فهذا واجب وإذا انصرف الحاج قبل الغروب فإنه قد ترك واجب يجبره بدم .
ويجوز للضعة من النساء والصبيان والمرضى ومن في حكمهم ممن يحتاج أولئك إليه الدفع من مزدلفة آخر الليل إذا غاب القمر بعد منتصف الليل لما رواه البخاري في صحيحه عن سالم مولى ابن عمر قال : كان عبد الله بن عمر يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام [بالمزدلفة] بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وللبخاري أيضاً عن ابن عباس قال : ( أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله ) . وله أيضاً عن ابن عباس :  ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل ) .وفي الصحيحين عبد الله مولى أسماء , عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما , ( أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي فصلت ساعة ثم قالت يا بنيّ هل غاب القمر ؟ قلت لا فصلت ساعة ثم قالت هل غاب القمر ؟ قلت نعم قالت فارتحلوا فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا فقالت يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن ) .

 

سادساً : يدفع الحجاج من مزدلفة لرمي جمرة العقبة ويستحب له إذا وصل وادي مُحَسّر أن يسرع قليلاً إن تيسر له ذلك لما رواه مسلم وغيره عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : عن جابر في حج النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( حتى إذا أتى محسرا حرك قليلا ) , فإذا وصل الحاج إلى جمرة العقبة وهي ( الجمرة الكبرى ) قطع التلبية  لما رواه البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس , أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة .

 

ويسن للحاج أن يقف بحيث تكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره لما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه , ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة . ( متفق عليه ) , ويرميها بحصيات متعاقبات مثل حصى الخذف يكبر مع كل حصاة , والسنة أن يلتقطها من منى . ولا يشرع الوقوف للدعاء ، بعد رمي جمرة العقبة ؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .ثم يذبح المتمتع والقارن هديه ويستحب له تعجيل ذلك في يوم النحر، بعد الرمي، ولا يؤخر إلى أيام التشريق ؛ ويستحب له الأكل من هدي التطوع , ويجوز للحاج التوكيل في ذبح الهدي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطبخ بضعة من كل بدنه فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها ولأنه وكَّل عليًا رضي الله عنه أن ينحر الباقي من بُدنه فدل على جواز التوكيل في الذبح .

 

ثم بعد الذبح يحلق الحاج رأسه أو يقصره لما رواه مسلم عن أنس بن مالك , ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس ) وفي رواية له ( أنه حلق شقه الأيمن فقسمه بين الناس من شعر وشعرتين وأعطى شقه الأيسر لأبي طلحة ) وفي رواية له ( أنه أعطى الأيمن لأبي طلحة وأعطاه الأيسر وأمره أن يقسمه بين الناس ) .
والحلق أفضل من التقصير لما رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله المحلقين ) مرة أو مرتين . قالوا : يا رسول الله , والمقصرين ؟ قال : ( والمقصرين ) .
وأما النساء فليس عليهن حلق وإنما عليهن التقصير لما روى أبو داود بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس على النساء الحلق , وإنما على النساء التقصير ) .

 

فإذا رمى الحاج جمرة العقبة وحلق أو قصر من شعره جاز له التحلل الأول فجاز له كل شيء ما عدا النساء , ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث  عائشة رضي الله تعالى عنها حيث قالت : ( كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم , ولحله قبل أن يطوف بالبيت ) وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : ( إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر ) . فدل ذلك على أن تطييبها له عليه الصلاة والسلام بعد ذبحه للهدي وبعد حلقه لرأسه عليه الصلاة والسلام وقبل طوافه بالبيت , وأما الآثار المروية في جواز التحلل الأول بعد الرمي وقبل الحلق فإنها آثار ضعيفة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم يستحب للحاج المبادرة إلى الطواف بالبيت وهو طواف الإفاضة وهو الركن الثالث من أركان الحج ويسبقه الركن الأول من أركان الحج وهو الإحرام الذي هو نية الدخول في النسك وليس لبس ملابس الإحرام , ويسبقه كذلك الركن الثاني من أركان الحج وهو الوقوف بعرفة . ولو أخر الحاج طواف الإفاضة ( وهو طواف الحج ) وجعله آخر عهده بالبيت أجزأه عن طواف الوداع .
فإذا طاف الحاج طواف الإفاضة فقد حلَّ الحل كله وجاز له كل شيء حتى النساء .

ويجوز تقديم هذه الأعمال بعضها على بعض لما ثبت في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال : وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع , فجعلوا يسألونه , فقال رجل : لم أشعر , فحلقت قبل أن أذبح , قال : ( اذبح ولا حرج ) , وجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي , قال : ( ارم ولا حرج ) , فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أُخر إلا قال : ( افعل ولا حرج ) .

 

سابعاً : يرمي الحاج الجمرات الثلاث في اليومين الحادي عشر والثاني عشر إذا كان متعجلاً , وفي اليوم الثالث عشر إذا كان متأخراً , ويكون الرمي بعد الزوال  لما رواه  البخاري معلقاً من حديث  جابر رضي الله عنه قال : ( رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال ). ووصله مسلم في حديث الباب في حديث جابر قال : ( رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس ) .
ويبدأ برمي الجمرة الصغرى ثم يقف ويدعو بعدها مستقبلاً القبلة رافعاُ يديه ثم الوسطى كذلك ثم يدعو بعدها ثم يرمي الجمرة الكبرى وينصرف ولا يدعو بعدها لما روى البخاري عن سالم ، عن ابن عمر: (  أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم ثم يُسهل – أي : يذهب إلى السهل وهو ما انخفض من الأرض - ، فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ويدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ) .
ويستحب للحاج في منى أن يصلي الصلوات بقصر الرباعية فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وحارثة بن وهب قالا : (  كان صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى ركعتين )

 

ثامناً : يجب على جميع الحجاج طواف الوداع باستثناء الحائض والنفساء ؛فإنه يسقط عنهما لما ثبت في الصحيحن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض ) . والدليل على أنه واجب هو قوله رضي الله عنه : أُمر لأن الآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم .من ترك طواف الوداع باستثناء الحائض والنفساء فعليه دم لتركه واجب من واجبات الحج .

 

كتبه الفقير إلى عفو ربه نهار بن عبدالرحمن العتيبي
عضو الجمعية الفقهية السعودية
الدوادمي 7/12/1432هـ