ليلة القدر
1 رمضان 1437
اللجنة العلمية
بسم الله الرحمن الرحيم
 

معنى ليلة القدر

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}:

إنها الليلة المباركة في كتاب الله عز وجل، يقول الله تعالى: " حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ*إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[الدخان:1-6].

وقد صح عن ابن عباس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم من علماء السلف ومفسريهم: أن الليلة المباركة هي ليلة القدر وفيها أنزل القرآن.

وفيها يفرق كل أمر حكيم، أي: أي يكتب، ويفصل.
وقيل: إن المعنى أنه يبين في هذه الليلة للملائكة.

وقيل: تقدر فيها مقادير الخلائق على مدى العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والحاج والداج، والعزيز والذليل، ويكتب فيها الجدب والقحط، وكل ما أراده الله تبارك وتعالى في تلك السنة.

والظاهر –والله أعلم- بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر: أنه ينقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ؛ ولذلك قال ابن عباس -رضي الله عنها-: (إن الرجل ليمشي في الناس وقد رُفع في الأموات)، ثم قرأ هذه الآية: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ" قال: يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة"

 

 
سبب تسميتها:

القَدْرُ في اللغة: يأتي بمعنى القضاء والحكم كالقَدَر، ويأتي بمعنى الحرمة والمكانة، فلان له قدر، ويأتي بمعنى التقدير، ولذا اختلف العلماء في سبب تسمية ليلة القدر بذلك، و أهم الأقوال:

1 - لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، لقوله تعالى: "فيها يفرق كل أمر حكيم".

2 - لشرفها وعظيم قدرها عند الله، قال القرطبي: " إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها من قولهم : لفلان قدر أي شرف ومنزلة قاله الزهري وغيره"[1]، وقال النووي: " وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها"[2].

3 -   "وقيل لأنه ينزل فيها ملائكة ذوات قدر.

4-  وقيل لأنها نزل فيها كتاب ذو قدر، بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وأمة ذات قدر.

5-  وقيل لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً.

6.  وقيل لأن من أقامها وأحياها صار ذا قدر، قال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها"[3].

والراجح أنها سميت بذلك لجميع هذه المعاني مجتمعة وغيرها، والله أعلم.

 

 
 

فضل ليلة القدر

يكفي أنّها ليلةُ القدر!

الزمان والمكان ظرفان، وشرف الظرف من شرف مظروفه، فلو أخرجنا كأسين من علبة واحدة، ووضعناهما فارغين، لما استطعنا التفاضل بينهما، فهما في القدر سواء، ولكن لو ملأنا أحدهما ماء، والآخر خمرا، فتصبح المفاضلة واضحة، وكذلك الزمان والمكان، فلا تفاضل بين أفرادهما بداية، ولكن عندما ننظر للأحداث التي تقع بهما فيمكن بكل يسر أن نفاضل بينهما، وليلة القدر، إذ حملنا معنى القدر فيها على التعظيم والرفعة، فلم نالت هذه المرتبة والمكانة العالية، فلا شك أن ما حدث فيها هو ذو القدر والرفعة، ويمكن أن نلاحظ فيها أربعة أمور:

أ‌-                نزول القرآن: وأي قدر أعظم من قدر القرآن، وأي مظروف يشرف ظرفه، أكبر من القرآن.

ب‌-          نزول الملائكة، وهي ذات القدر والمكانة الرفيعة، لأنها مطهرة من الرذائل، ملهمة للتسبيح والطاعة.

ت‌-          نزول الروح: إن حملنا الروح على معنى الرحمة والخيرات، كما هو قول أحد المفسرين.

ث‌-          السلام، فهي ليلة آمنة سالمة.

فهذه الأمور الثلاثة التي شرفت بها ليلة القدر، وههنا أمر مهم للغاية، وهو أن الإنسان إذا مر بزمن مبارك أو مكان مبارك، عليه أن يقتبس منه سر البركة، ويتحقق به، فيغدو أفضل من هذا الزمان والمكان، لأن ماهية الإنسان أفضل من ماهية الزمان والمكان.

ومن هنا فالمؤمن في ليلة القدر عليه أن يقتبس المعاني التي شرفت بها، ويتحقق بها في حياته، ليصبح إنسانا ذا قدر، والأمة عليها أن تقتبس هذه المعاني وتتحقق بها لتصبح أمة ذات قدر، وسبيل ذلك أن نأخذ من المعنى الأول وهو نزول القرآن الاهتمام بالقرآن، فعندما يكون الصدر وعاء لحروف القرآن، والقلب وعاء لمعاني القرآن، والنفس وعاء لمنهج القرآن، والسلوك مترجما ومؤولاً للقرآن، عندها يصبح المؤمن رجل القرآن بكل ما للكلمة من معنى، وعندها يصبح الرجل ذا القدر، وكذا الأمر مع الأمة.

وفي النقطة الثانية عندما يكون المؤمن مصاحبا للملائكة، تتنـزل عليه تشهد قرآنه وتشهد صلاته وتشهد معه حلق العلم والذكر، بل وتكون معه معقبات تحفظه من أمر الله، فعندها يكون المؤمن إنسانا ذا قدر، على خلاف من صاحبته الشياطين، وقيضت له وكانت معه قرينا، والعياذ بالله.

وعندما يكون المؤمن بطاعاته وعباداته محلا للرحمات الإلهية والبركات الربانية، فلا شك سيكون إنسانا مباركا أينما كان وأينما حل.

وأما رابع الأمور، فالسلام من أخص خصائص المسلم، أي يكون قلبه سليما، ولسانه سليما، ويده سليمة، ونفسه سليمة، وجوارحه كلها سليمة، ويعامل الناس بسلام، ويشعر الناس معه بالأمن والسلام، أفليس ذلك من أعظم الأمور التي تجعل الإنسان ذا قدر، فلا بد للإنسان أن يقتبس من ليلة القدر سر القدر.

 
فضل ليلة القدر في القرآن الكريم والسنة النبوية!
في القرآن الكريم:

-                  قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ{1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ{2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾[القدر:1-3].

فبين الله تعالى أنها أفضل من ألف شهر، أي ما يقارب 83 عاما، أي إن اغتنام ليلة القدر بالأعمال الصالحات، خير من عمل ألف شهر، وهذا فضل عظيم، قال القرطبي: "بين فضلها وعظمها وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر والله أعلم، وقال كثير من المفسرين : أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقال أبو العالية : ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون في ليلة القدر"([4]) ومما جاء في بيان الألف شهر هذه، "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أري أعمال الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمال أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر"([5]) ،عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال فعجب المسلمون من ذلك قال فأنزل الله عز وجل { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر } التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر ([6])، وبغض النظر عن هذه الآثار فإن الفضل الثابت لها أنها أفضل من ألف شهر، ولا يهم معرفة هذه الشهور.

-                  قوله تعالى: ﴿ ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ{3} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان:9-4]، والليلة المباركة هنا هي ليلة القدر، وسماها ربنا مباركة، لكثرة الخير والبركات التي تتنـزل على المؤمنين فيها.

في السنة:

-                  حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))[7]

-                  حديث سلمان قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر))[8]، ففضل كبير فيها أن يكون قيامها كفارة عن كل ما تقدم من الذنوب!

 
1- أنها خيرٌ من ألف شهر:

قال تعالى: "لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ"[القدر:3].

قال مجاهد: عملها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف شهر.

2- نزول الملائكة والروح فيها:

قال تعالى: "تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ"[القدر:4].

قال البغوي: قوله عز وجل: "تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ" يعني جبريل عليه السلام معهم {فِيهَا} أي: ليلة القدر {بِإِذْنِ رَبّهِم} أي: بكل أمرٍ من الخير والبركة(3).

وقال ابن كثير: أي: يكثر تنـزّل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنـزلون مع تنزّل البركة والرحمة، كما يتنـزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَقِ الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيماً له.

3- أنها سلام إلى مطلع الفجر:

قال تعالى: "سَلَـٰمٌ هي حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ"[القدر:5].

عن مجاهد في قوله: {سَلَـٰمٌ هي} قال: سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى.

قال ابن الجوزي: ... وفي معنى السلام قولان:

أحدهما: أنه لا يحدث فيها داء ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد.

والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة، وكان بعض العلماء يقول: الوقف على {سَلَـٰمٌ}، على معنى تنزّل الملائكة بالسلام.

4- من قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه) متفق عليه.

قال ابن بطال: ومعنى قوله: (إيماناً واحتساباً) يعني مُصدِّقاً بفرض صيامه، ومصدقاً بالثواب على قيامه وصيامه، ومحتسباً مريداً بذلك وجه الله، بريئاً من الرياء والسمعة، راجياً عليه ثوابه.

قال النووي: معنى إيماناً: تصديقاً بأنّه حق، مقتصد فضيلته، ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بالقيام: صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها.

 

 

متى ليلة القدر؟

يقول الشيخ محمد الشنقيطي:

"اختلف العلماء رحمهم الله على أكثر من أربعين قول في تحديد ليلة القدر والسبب في ذلك ورود الأحاديث المختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديدها، وتعارض الأثار عن الصحابة رضي الله عنهم.

والقول الأقوى أنّها في الوتر من العشر الأواخر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الآواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة» [رواه البخاري].

ونقول كما علق الشيخ صالح اللحيدان: أن على الإنسان أن يجتهد العشر كلها لأنّه قد يكون حساب الشهر عندنا يختلف، فتكون ليلة 27 عندنا هي 28 والله أعلم ".

 

فيما يلي أقوال العلماء في محلّ ليلة القدر :

القول الأوّل : الصّحيح المشهور لدى جمهور الفقهاء , وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , والأوزاعي وأبو ثورٍ : أنّها في العشر الأواخر من رمضان لكثرة الأحاديث الّتي وردت في التماسها في العشر الأواخر من رمضان , وتؤكّد أنّها في الأوتار ومنحصرة فيها .

والأشهر والأظهر عند المالكيّة أنّها ليلة السّابع والعشرين .

وبهذا يقول الحنابلة , فقد صرّح البهوتي بأنّ أرجاها ليلة سبعٍ وعشرين نصاً .

القول الثّاني : قال ابن عابدين : ليلة القدر دائرة مع رمضان , بمعنى أنّها توجد كلّما وجد , فهي مختصّة به عند الإمام وصاحبيه , لكنّها عندهما في ليلةٍ معيّنةٍ منه , وعنده لا تتعيّن .

وقال الطّحطاوي : ذهب الأكثر إلى أنّ ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين , وهو قول ابن عبّاسٍ وجماعةٍ من الصّحابة رضي الله عنهم , ونسبه العيني في شرح البخاريّ إلى الصّاحبين .

القول الثّالث : قال النّووي : مذهب الشّافعيّة وجمهور أصحابنا أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا , ولكنّها في ليلةٍ معيّنةٍ في نفس الأمر لا تنتقل عنها ولا تزال من تلك اللّيلة إلى يوم القيامة , وكل ليالي العشر الأواخر محتملة لها , لكن ليالي الوتر أرجاها , وأرجى الوتر عند الشّافعيّ ليلة الحادي والعشرين ,

وقال الشّافعي في موضعٍ إلى ثلاثةٍ وعشرين ,

وقال البندنيجي : مذهب الشّافعيّ أنّ أرجاها ليلة إحدى وعشرين , وقال في القديم : ليلة إحدى وعشرين أو ثلاثٍ وعشرين فهما أرجى لياليها عنده , وبعدهما ليلة سبعٍ وعشرين .

هذا هو المشهور في المذهب أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان .

وقال الشّربيني الخطيب : .. وقال ابن عبّاسٍ وأبيّ رضي الله عنهم : هي ليلة سبعٍ وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم .

القول الرّابع : أنّها أوّل ليلةٍ من رمضان , وهو قول أبي رزينٍ العقيليّ الصّحابيّ لقول أنسٍ رضي الله عنه : ليلة القدر أوّل ليلةٍ من رمضان , نقلها عنهما ابن حجرٍ .

القول الخامس : أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان ,

روى ابن أبي شيبة والطّبراني من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : ما أشك ولا أمتري أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن , وروي ذلك عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه بحجّة أنّها هي اللّيلة الّتي كانت في صبيحتها وقعة بدرٍ ونزل فيها القرآن لقوله تعالى : { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } , وهو ما يتوافق تماماً مع قوله تعالى في ليلة القدر : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } .

القول السّادس : أنّها مبهمة في العشر الأوسط , حكاه النّووي وقال به بعض الشّافعيّة وهو قول للمالكيّة وعزاه الطّبريّ إلى عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه والحسن البصريّ .

القول السّابع : أنّها ليلة تسع عشرة ,

قال ابن حجرٍ : رواه عبد الرّزّاق عن عليٍّ رضي الله عنه وعزاه الطّبريّ لزيد بن ثابتٍ وابن مسعودٍ رضي الله عنهما ووصله الطّحاوي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه .

القول الثّامن : أنّها متنقّلة في ليالي العشر الأواخر تنتقل في بعض السّنين إلى ليلةٍ وفي بعضها إلى غيرها , وذلك جمعاً بين الأحاديث الّتي وردت في تحديدها في ليالٍ مختلفةٍ من شهر رمضان عامّةً ومن العشر الأواخر خاصّةً , لأنّه لا طريق إلى الجمع بين تلك الأحاديث إلا بالقول بأنّها متنقّلة , وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل , فعلى هذا كانت في السّنة الّتي رأى أبو سعيدٍ رضي الله عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطّين ليلة إحدى وعشرين , وفي السّنة الّتي أمر عبد اللّه ابن أنيسٍ بأن ينزل من البادية ليصلّي في المسجد ليلة ثلاثٍ وعشرين , وفي السّنة الّتي رأى أبي بن كعبٍ رضي الله عنه علامتها ليلة سبعٍ وعشرين , وقد ترى علامتها في غير هذه اللّيالي , وهذا قول مالكٍ وأحمد والثّوريّ وإسحاق وأبي ثورٍ وأبي قلابة والمزنيّ وصاحبه أبي بكرٍ محمّد ابن إسحاق بن خزيمة والماورديّ وابن حجرٍ العسقلانيّ من الشّافعيّة , وقال النّووي : وهذا هو الظّاهر المختار , لتعارض الأحاديث الصّحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها , وقيل : إنّ ليلة القدر متنقّلة في شهر رمضان كلّه .

قال بعض أهل العلم : أبهم اللّه تعالى هذه اللّيلة على الأمّة ليجتهدوا في طلبها , ويجدوا في العبادة طمعاً في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كلّه , وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء , ورضاه في الطّاعات ليجتهدوا في جميعها , وأخفى الأجل وقيام السّاعة ليجدّ النّاس في العمل حذراً منهما!

 

فهذه الأقوال تدل على أنها تكون في أوتار العشر الأخير، ومن أهل العلم من حددها في يوم منها، فقال الشافعي: وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين، وروي عن أبي قلابة أنها تنتقل في العشر الأخير[9]، وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: هي في ليلة السابعة والعشرين، كما تقدم في الحديث السابق.

 

 

 
 

علامات ليلة القدر

يقول الشيخ بن عثمين رحمه الله في الشرح الممتع:
علامات مقارنة:
1 - قوة الإضاءة في تلك الليلة وهذه العلامة لا يحس فيها بالمدن.

2 - الطمأنينة أي طمأنينة القلب وإنشراح الصدر من المؤمن فإنّه يجد راحة وطمأنينة في هذه الليلة أكثر ما يجده في بقية الليالي.

3 - الرياح تكون فيها ساكنة.
4 - المنام .. أنه قد يري الله الإنسان في المنام كما حصل مع بعض الصحابة.
5 - اللذة .. أن الإنسان يجد في القيام لذة أكثر من غيرها من الليالي.
علامات لاحقة:
الشمس تطلع صبيحتها ليس لها شعاع .. صافية.

يعلق الشيخ الشنقيطي: "سبب ذلك - والله أعلم - أن الملائكة تصعد بعد الفجر إلى السماء بعد أن كانت على الأرض فتحجب شعاع الشمس، لأن الله أخبر أن الملائكة تتنزل في ليلة القدر".

 
علامات ذكرها بعض أهل العلم:

ذكر بعضُ أهل العلم لليلة القدر علامات يستدل بها عليها، و أذكر ما قاله ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: " وقد ورد لليلة القدر علامات أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضى، منها:

1-             في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها، وفي رواية لأحمد من حديثه مثل الطست، ونحوه لأحمد من طريق أبي عون عن بن مسعود وزاد صافية ومن حديث بن عباس نحوه .

2-           ولابن خزيمة من حديثه مرفوعا ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة.

3-           ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً أنها صافية بلجة كان فيها قمرا ساطعا ساكنة صاحية لا حر فيها ولا برد ولا يحل لكوكب يرمي به فيها ومن إماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ.

4-           وله من حديث جابر بن سمرة مرفوعا ليلة القدر ليلة مطر وريح.

5-            ومن طريق قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة مرفوعا وأن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

"فقيل له (أبي بن كعب): بأي شيء علمت ذلك؟ فقال:  بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا أن الشمس تطلع صبحة صبيحتها كالطست لا شعاع لها، فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أشهر العلامات في الحديث،  وقد روي في علاماتها أنها ليلة بلجة منيرة وهي ساكنة لا قوية الحر ولا قوية البرد، وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له:  هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر، والله تعالى أعلم". (مجموع الفتاوى)!

من فتاوى الشيخ ابن باز:
السؤال:

هل ترى ليلةُ القدر عياناً؛ أي أنَّها ترى بالعين البشرية المجردة؟ حيث إنَّ بعض الناس يقولون: إن الإنسان إذا استطاع رؤية ليلة القدر يرى نورا في السماء ونحو هذا، وكيف رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ وكيف يعرف المرء أنه قد رأى ليلة القدر؟ وهل ينال الإنسان ثوابها وأجرها، وإن كانت في تلك الليلة التي لم يستطع أن يراها فيها؟

نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟.
الجواب:

قد تُرى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه، وذلك برؤية أماراتها، وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلامات ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا؛ فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم طلبا للأجر والثواب فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه الليلة نال أجرها، وإن لم يعلمها قال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (البخاري) » وفي رواية أخرى «من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (متفق عليه) »

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن من علاماتها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، وكان أبي بن كعب يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين ويستدل بهذه العلامة، والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها وأوتارها أحرى وليلة سبع وعشرين آكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقرآن والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير أدرك ليلة القدر بلا شك وفاز بما وعد الله من قامها إذا فعل ذلك إيمانا واحتسابا والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 [مجلة البحوث الإسلامية 20/ 186]

 

 
 

حرص النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على تحرِّي ليلة القدر!

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على الخير، وأسبق الناس إلى كسبه وفعله، وضلَّ قوم جاؤوا بعبادات وطاعات في الكمِّ أو الكيف، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وعلَّلوا ذلك بأنَّهم أحوجُ إلى الخير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل النَّفر الذي سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يفعل كثيرٌ من المسلمين اليوم.

وبالتأمل في منهج النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر يمكن أن نلاحظ الأمور التالية:

1-            اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على إدراكها، فقد كان يعتكف في المسجد من أجل إدراكها، وكان في البداية يعتكف الشهر كله، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ورجع من كان يجاور معه وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله ثم قال ( كنت أجاور هذه العشر ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها فابتغوها في العشر الأواخر وابتغوها في كل وتر وقد رأيتني أسجد في ماء وطين ) . فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء".[10]، فلما تبين له أنها في العشر الأخير صار يعتكف في العشر الأخير فقط.

2-            كان يحرص على قضائها كلها في العبادة، ولهذا كان يعتكف لأنه يستغرق الوقت في العبادة وينقطع عن الشواغل.

3-            كان يحث أهله على اغتنامها والتعرض لها، كما في حديث عائشة رضي الله عنها " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"[11]، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلم في طاعته لله، ورعايته لأهل بيته.

4-            كان يحث أصحابه على فعلها، كما في الأحاديث السابقة، وهذا منهج ينبغي أن يسير عليه المسلم في دعوة الناس وكل من يحب خاصة إلى الخير، ولا يستأثر بها لنفسه.

5-            كان إحياؤه لها منفردا بنفسه، ولم يكن يحييها مع الصحابة جميعا، ولا يخلوا هذا من الحكمة، فلكل حاجته التي يسألها ربه، وذنوبه التي يستغفر ربه منها، ولعل في هذا الهدي إشارة إلى أن ما عليه بعض المسلمين من إحيائها بصورة جماعية، مخالف للهدي النبوي على أقل تقدير.

6-            كان إحياؤه لها بالدعاء والصلاة والذكر، وهذا هو سبيل المؤمنين، فعجبا لقوم يحيونها بالغناء والرقص.

 
فتوى:
السؤال:

ما حكمُ الاحتفال بليلة سبع وعشرين ليلة القدر؟

الجواب:

خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، فهديُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضانَ: الإكثارُ من العبادات من صلاة وقراءة القرآن وصدقة وغير ذلك من وجوه البر، وكان في العشرين الأُوَل ينام ويصلي فإذا دخل العشر الأخير أيقظ أهله وشد المئزر وأحيا ليله وحث على قيام رمضان وقيام ليلة القدر فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه.

وبين - صلى الله عليه وسلم - أن ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان وأنها في أحد أوتاره فقال - صلى الله عليه وسلم -: «التمسوها في العشر الأواخر في الوتر منه» رواه أحمد في المسند وأخرجه الترمذي وجاء فيه: «التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة» قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - الدعاء الذي تدعو به إن وافقت هذه الليلة، فقد روى أحمد في المسند عنها - رضي الله عنها - قالت: «" يا نبي الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟

" قال: تقولين " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وقد أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والترمذي، وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح، هذا هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وفي ليلة القدر، وأما الاحتفال بليلة سبع وعشرين على أنها ليلة القدر فهو مخالف لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بليلة القدر!

 [مجلة البحوث الإسلامية 37/ 163]
 

كيف نحيي ليلة القدر؟

من الأفضل أن يسير المؤمن على خطة واضحة في إحياء ليلة القدر، وهي ذات شقين: مراجعات وعبادات.

الأول:مراجعات، فقبل البدء بإحياء ليلة القدر، بل قبل ليلة القدر، بل قبل رمضان كله، لابد من مراجعات يقوم الإنسان في علاقاته، حتى تصبح الطاعات منه مقبولة، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[المائدة:27]، فيسعى لتصحيح علاقاته مع والديه وأرحامه وجيرانه ومعاملاته، وترميم الهوات التي أحدثتها خلافات الدنيا.

والثاني: الطاعات، وهي العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى في هذه الليلة، و أهمها:

1-            قيام الليلة كلها، وهو الأفضل، فإن لم يستطع فالنصف الثاني أفضل من الأول، فإن لم يستطع فالثلث الأخير، لأنه الوقت الذي ينزل فيه الله تعالى، نزولا يليق بجلاله وكماله، فينادي على عباده ويمن عليهم بالرحمات والمغفرات، فإن لم يستطع فأداء الصلوات المكتوبة للرجال مع جماعة المسلمين، لاسيما الصبح والعشاء، وذلك أضعف الإيمان.

2-            صلاة التهجد، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"[12]، وكان عليه الصلاة والسلام أكثر ما يقوم الليل بالصلاة، ويطيل السجود ويكثر من الدعاء. 

3-            الدعاء، فالدعاء هو سر العبادة ومعناها، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة))[13]، وما من عبادة إلا واشتملت على الدعاء، فليحرص على الدعاء فيها ما استطاع.  

4-            قراءة القرآن: فهي ليلة القرآن الكريم، وتلاوته من أعظم القربات.

5-            التسبيح والتهليل والاستغفار وغيره من أنواع الذكر.

وليقسم الإنسان ليله، جزء للقيام وجزء للدعاء وجزء للقرآن وجزء للأذكار، ولينقل النفس من عبادة لأخرى كلما أحست بالتعب.

ويمكن للمرء أن يجمع بين هذه كلها في الصلاة إذا أطال القيام، وسأل الله الرحمة واستعاذ به من النيران، كلما مر بآية رحمة أو عذاب.

قال سفيان الثوري رحمه الله: (الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة، قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق).

قال ابن رجب: (ومراده ـ أي سفيان ـ أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسناً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها، والله أعلم؛ وقد قال الشعبي في ليلة القدر: ليلها كنهارها؛ وقال الشافعي في القديم: أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها).[14]

أذكار ليلة القدر:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال: ((قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني))[15].

فهذا هو الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين، وللمؤمنين من بعدها في ليلة القدر، وهو دعاء جامع، فيه الثناء على الله تعالى، والتذلل وطلب الصفح والمغفرة، وهذا الحال الذي يناسب ليلة القدر.

ويمكن أن يدعو الإنسان بما شاء فيها، ولاسيما ما كان يقوله النبي صلى الله عليه في تهجده في الليل، ومنه ما ورد عن عائشة قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: (اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) ".[16]

وليدع العبد ربه أن يلطف به بما يقدر عليه في هذه الليلة، وأن ييسر له الهدى والتوفيق، وأن يقيه المهالك والمساوئ من أمور الدنيا والآخرة. 

وينبغي التنبيه إلى ما اعتاده كثير من الناس من صلاة التسابيح فيها، فهي ضعيفة الأثر، وليست مما تشرع له الجماعة، ثم فعلها في ليلة القدر من كل عام يوهم بتخصيصها فيها وليس الأمر كذلك.

وهل يقوم الليلة كلّها،أم يكفي قيام بعضها؟

يُجيب عن السؤال الشيخ محمد الشنقيطي:
اختلف العلماء - رحمهم الله - :

قال بعض العلماء : إنه يقوم الليلة كاملة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخلت عليه العشر شد مئزره، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله ، وفي بعضها : (( طوى فراشه )) صلوات الله وسلامه عليه كناية عن اعتزال النساء ، فقالوا لابد أن يصلي من العشاء إلى الفجر، يصلي ويذكر يكون في ذكر الله - تعالى - ولا يصدق عليه أنه قائم إلا إذا لم ينم ، أما إذا نام فقد ضيّع ، بقدر ما ينام من فضل القيام .

وقال بعض العلماء : لا بأس أن ينام بعض الليل ، مادام أنه قد قام أغلبه ؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قالت : (( ما قام ليلة حتى أصبح )) . صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يقولون : يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يحي الليلة كاملة ، ومن هنا رخصوا من كونه إذا تعب أو كذا أن يستجم بالنوم .

وقال بعض العلماء : أنه لو نام اليسير، ثم قام فالأجر أعظم ؛ لأنه في هذه الحالة يترك النوم ويرغب في العبادة ؛ وهذا أصدق كما قال تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } .

فيقولون : إنه إذا ذاق لذة النوم ثم صلى فهذا أبلغ اجتهادا من شخص يستمر في صلاته فإنه لا يصل إلى آخر الليل وهو منهك متعب .

والحقيقة ظاهر النصوص أنه أحيا ليله ، وهذا يقتضي أنه أحيا الليل كاملا ، والمطلقات تقيد، وعائشة - رضي الله عنها - معروف أنها تحكي الذي كان في بيتها ، فاعتكافه - عليه الصلاة والسلام - كان في قبته ، وكان خاليا في عبادته لربه ، كما في الحديث الصحيح أنه كان تضرب له القبة ، فلذلك ظاهر النص في الإحياءأنه يبقى على ظاهره ، ويجتهد الإنسان ، لكن لو أنه لا يستطيع أن يحي الليل ، ويجد التعب ، فينام أول الليل ، ثم يقوم آخره ؛ طلبا لهذه الفضيلة ، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص ، وأن يجعلنا وإياكم ممن صام الشهر، واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر . إنه ولي ذلك وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

 
 
 

أحوالُ النَّاس اليومَ في تحري ليلة القدر

إن حال الناس اليوم مع ليلة القدر ليس على الوجه الذي يطيب به القلب وتسر به النفس، فهما ثلاث فرق:

1-            وفقها الله تعالى للصواب، وهداها للصراط المستقيم، وهي التي أحيت ليلة القدر على المنهج السابق الذي ذكرته.

2-            وفرقة انتبهت لليلة القدر، و أرادت اغتنامها وقيامها، لكنها ضلت عن الطريق الصحيح الذي يوصلها لذلك، فاجتمعوا في المساجد أو في مكان ما، وكانت صلاتهم كنقر الديكة، حتى إذا ما فرغوا التفوا حلقة يغنون ويضربون بالدفوف، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم قوم ثقل عليهم القرآن، وصعبت عليهم الصلاة، وزين لهم الشيطان فعلهم، بل ربما قاموا يرقصون أو يتمتمون، بطقوس ما أنزل الله بها كتابا، ولا أرسل بها نبيا.

3-            فرقة لاهية غافلة، لا تعرف لليلة القدر قدرا، ولا تغتنم مرورها لتصحح العلاقة مع الله، بل هي عن رمضان كله غافلة، فصيامها جوع وظمأ، وعادتها في اللهو والغفلة كما هي، بل ربما حتى مع المعاصي، والعياذ بالله.

 

 
 

ليلة القدر وتقدير الأعمال

في ليلة القدر يقدر الله تعالى أعمال العباد، وما سيقع معهم في عامهم المقبل، قال القرطبي: " {في ليلة القدر} قال مجاهد : في ليلة الحكم {وما أدراك ما ليلة القدر} قال: ليلة الحكم، والمعنى ليلة التقدير، سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهو أربعة من الملائكة : إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبريل عليهم السلام، وعن ابن عباس قال : يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت حتى الحاج، قال عكرمة : يكتب حاج بيت الله تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم وقاله سعيد بن جبير"[17]، وقال النووي: "قال العلماء:  وسميت ليلة القدر لما يكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة، كقوله تعالى: ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ وقوله تعالى: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وتقديره له"[18]، وقال أيضا: " روى حماد بن سلمة قال أخبرنا ربيعة بن كلثوم قال : سأل رجل الحسن وأنا عنده فقال : يا أبا سعيد أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي ؟ قال : أي والله الذي لا إله إلا هو إنها في كل رمضان إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها، وقال ابن عباس : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج، يقال: يحج فلان ويحج فلان، وقال في هذه الآية : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى"[19]، وقال ابن كثير في تفسير الآية: " أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها وهكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف"[20]

وليس معنى التقدير هنا، أنه يقضي على عباده بما لم يكن من قبل، بل معناه أنه يخبر ملائكته بما يحدث مع عباده في هذا العام مما قضاه عليهم من الأزل، قال القرطبي: " وهذه الإبانة لإحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق"، وقال: " قال المهدوي : ومعنى هذا القول أمر الله عز وجل الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل"[21].

وقد ورد عن بعض أهل العلم أن هذا يكون في ليلة النصف من شعبان، وهذا مخالف للصواب، قال القرطبي: " وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر ومنهم من قال : إنها ليلة النصف من شعبان وهو باطل لأن الله تعالى قال في كتاب الصادق القاطع : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 185 ] فنص على أن ميقات نزوله رمضان ثم عين من زمانه الليل هاهنا بقوله : { في ليلة مباركة } فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها"[22].

 

 
 

ليلة القدر والقرآن

إن من خصائص هذه الليلة كما سبق أنه نزل فيها القرآن الكريم، ولكن من المعلوم أن القرآن لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة، بل نزل منجما على ثلاثة وعشرين عاما، فما معنى نزوله في ليلة القدر، هناك أقوال للعلماء:

1-            قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم[23]، وقال ابن كثير: " وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وقال { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس كما قال إسرائيل عن السدي عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عباس : أنه سأل عطية بن الأسود فقال : وقع في قلبي الشك قول الله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وقوله { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } وقوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وقد أنزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم وصفر وشهر ربيع فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وهذا لفظه".[24]

2-            أن ابتداء نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم كان في ليلة القدر ، قال الشعبي: "المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر".[25]

3-            قال القرطبي: "حكى الماوردي عن ابن عباس قال : نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة ونجمة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة قال ابن العربي : ( وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله واسطة ولا بين الله واسطة ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة)".[26]

 

 
 

ليلة القدر والاعتكاف

 إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في رمضان من أجل تحري ليلة القدر، بل غير موعد اعتكافه لما تبين له أنها ليست في العشر الذي يعتكف فيه، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين، رجع إلى مسكنه ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله ثم قال: ((كنت أجاور هذه العشر ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر وقد رأيتني أسجد في ماء وطين))، فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء".[27]

وبعدها كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في العشر الأخيرة التماساً لليلة القدر، ومن هنا يتبيَّنُ أن الاعتكاف وليلة القدر عبادتان متلازمتان، ولهذا حريٌّ بمن أراد أن يلتمسَ ويتحرَّى ليلة القدر أن يعتكف لها، لاسيما وأنها ليلة في العشر، فقد تفوته من حيث لا يدري، ومن هنا يتبين أن ما عليه كثير من المسلمين من الاجتماع لليلة القدر في ليلة واحدة فقط، ليس هو الوجه الأكمل لالتماس ليلة القدر.

 
[1] - تفسير القرطبي 20/120

[2] - شرح صحيح مسلم للنووي 8/58.

[3] - تفسير القرطبي 20/120
[4] - تفسير القرطبي 20/121.

[5] - البيهقي في شعب الإيمان (3667)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (604)، ومالك في الموطأ منقطعا (698).

[6] - البيهقي في السنن الكبرى (8305) وهذا مرسل.

[7] - البخاري (1910) ومسلم (760)

[8] - ابن خزيمة (1887)، والبيهقي في شعب الإيمان (3608)ن وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (871).

[9] - ذكرهما الترمذي بعد تخريجه الحديث رقم (792).

[10] - أخرجه البخاري (1914) ومسلم (1167).

- [11] أخرجه البخاري (1920).

[12] - البخاري (1910) ومسلم (760).

[13] - أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969) وقال عنه حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.

[14] - لطائف المعارف 277-278.

[15] - أخرجه الترمذي (3513) وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.

[16] - أخرجه مسلم (486).                                                                                                                                         

[17]-  تفسير القرطبي 20/120

[18] - شرح صحيح مسلم للنووي 8/58.

[19] - تفسير القرطبي 16/1100.
[20] - تفسير ابن كثير 4/175.
[21] - تفسير القرطبي 16/1100.
[22] - المرجع السابق.

[23]-  ابن كثير 4/684.

[24] - المرجع السابق 1/292.
[25] - تفسير القرطبي 20/120.
[26] - المرجع السابق.

[27] - أخرجه البخاري (1914) ومسلم (1167).