الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فأحوال الأمة اليوم تقتضي منا التذكير ببعض ما فيه نفعها، من الأسباب الشرعية التي تعينها على أحوالها، وترفع بإذن الله ما نزل بها، ولاسيما أن الأسباب المادية إنما تتيسر لعدد قليل في الغالب من جمهور الأمة، أما الأسباب الشرعية فبمقدور كل امرئ أن ينفع نفسه وأمته بها.
ومن أعظم الأسباب الشرعية لدرء البلاء ورفع البأس ودفع الفتن الصلاة!
وقد كان الأنبياء والصّالحون يعرفون مكانة الصّلاة الكبيرة بين العبادات، فكانوا كثيراً ما يفزعون عند نزول البلاء أو الشدة إلى الصّلاة وما تتضمّنه من القرآن والذكر والدُّعاء، وقد صحَّ عن صهيب -رضي الله عنه-، أنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى همس شيئاً لا نفهمُه... الحديث" وفيه: "قال: وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصَّلاة"(1)، يعني الأنبياء.
وروى الإمام أحمد في مسنده بسند جيد عن عليٍّ في يوم بدر قال: "ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم، إلاّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرةٍ يُصلي ويبكي حتى أصبح"(2).
وقد جاء ذكرُ صلاته مع دعائه -صلَّى الله عليه وسلم- حين التقاء الصَّف، عن عبدالله ابن مسعود قال: "لما التقينا يوم بدر، قام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُصلِّي فما رأيتُ ناشداً ينشد حقاً له أشدَّ من مناشدة محمد -صلى الله عليه وسلم- ربَّه، وهو يقول: اللَّهمَّ إني أنشدك وعدَك"، ثم ذكر الدُّعاء الثابت المشهور(3).
وكذلك روى البخاريُّ وغيره عن أم سلمة، قالت: استيقظ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فقال: "سبحانَ الله، ماذا أُنزلَ الليلة من الفتن، وماذا فُتح من الخزائن، أيقظوا صواحباتِ الحُجَر، فرُبَّ كاسية في الدنيا عاريةٍ في الآخرة"(4)، وفي رواية في البخاري: "حتى يُصلِّين"، قال ابن حجر: "وفي الحديث استحبابُ الإسراع إلى الصَّلاة عند خشية الشَّرِّ، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: من الآية45]، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمرٌ فزِعَ إلى الصلاة، وأمر من رأى في منامه ما يكرهُ أن يصلِّي"(5)، وما أشار إليه من أمر الصَّلاة عند الرؤيا التي يكره ثابتٌ عند مسلم من حديث أبي هريرة وفيه: "فإذا رأى أحدُكم ما يكره؛ فليقُم فليُصلِّ"(6)، وفي أثر عبيد الله بن النضر، قال: حدَّثني أبي قال: "كانت ظلمةٌ على عهد أنس"، قال: "فأتيت أنساً فقلت: يا أبا حمزة! هل كان يُصيبكم مثلُ هذا على عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟ قال: معاذَ الله، إن كانت الريحُ لتشتدُّ فنبادر إلى المسجد مخافةَ القيامة"(7)، وجاء عن علقمة أنه قال: "إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء؛ فافزعوا إلى الصَّلاة"(8)، وجاء أن ابن عباس نُعيَ إليه أخوه -وهو في مسير- فاسترجع وتنحَّى عن الطريق ثم صلَّى ركعتين، ثم قام يمشي إلى راحلته، وهو يقولُ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}(9)، ولهذا ونحوه قال الآجُري وجماعة فيمن أصيب بمصيبة: "يصلي ركعتين، وهو متجه"(10).
والمقصود أن الصّلاة والدُّعاء وكذلك قراءة القرآن من أعظم ما يُستعان به على الثَّبات عند الفتن، ومردُّ ذلك إلى أنَّ الإقبالَ على هذه العبادات، يورث العبد خشيةً وإنابةً وقرباً من الله عزّ وجل، وظفراً بمعيَّته الخاصَّة بالمؤمنين، وهو الأثر الّذي يتحقّق كذلك عند أداء العبادات الأخرى من صدقة وزكاة وصيام وحجٍّ وعمرة.. ومن الخذلان أن يشتغل العبد عن العبادة، ويغفل عن الاستعانة بالصلاة، ويستغرق في متابعة الأحداث وأحوال المسلمين –ولن تعوقه متابعتها المطلوبة لو صدق عنها- ثم يطفق يذم من لا يقدمون ولا يؤخرون من أهل العلم والفضل والعبادة لأمتهم شيئاً، منتقداً سلبيتهم! وبإحدى يديه الريموت كنترول وفي الأخرى فنجان القهوة! مهمهما في بعض الأوقات باللعنات!
__________________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 4/333، 6/16، وهو عند ابن حبان في صحيحه 5/311 (1972)، والبزار في مسنده 6/16، والبيهقي في الشعب 3/155، وانظر تهذيب الآثار 3/91 وما بعدها، قال الألباني في السلسلة الصحيحة: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، (2459)، وقال المقدسي في المختارة: إسناده صحيح 8/61.
(2) المسند 1/125، وقد رواه ابن خزيمة في صحيحه 2/52 (889)، وابن حبان في صحيحه أيضاً 6/32 (2256)، والطبري في تاريخه 2/23،وغيرهم وصحح الأثر الألباني كما في كما في صحيح الترغيب والترهيب (545) وكذلك الوادعي في صحيح الجامع الصحيح 2/466.
(3) الكبرى 6/155 (10442).
(4) صحيح البخاري (115).
(5) فتح الباري لابن حجر 1/211، وينظر التمهيد 23/449، وشرح الزرقاني 4/342.
(6) صحيح مسلم (2263).
(7) رواه الحاكم في المستدرك 1/483 برقم (1196)، وأبو داود في السنن (1196)، والبيهقي في الكبرى 3/342 برقم (6171)، والضياء في المختارة (2705)، ولعله حديث حسن كما قال النووي في الخلاصة 2/865.
(8) مصنف ابن أبي شيبة 2/219 (8318)، 7/322 (36499).
(9) أثر ابن عباس أورده ابن جرير في تفسير 1/260، ورواه كذلك البيهقي في شعب الإيمان 7/114، وحسن ابن حجر إسناد ابن جرير في الفتح 3/172.
(10) الفروع لابن مفلح 2/285.