استئجار الأرحام دراسة فقهية مقارنة 1-2
1 صفر 1432
د. حصة بنت عبد العزيز السديس

مقدمة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإنه مما قذفت التقنية الطبية الحديثة مع التفاعلات بين الحضارات (مسألة الأم البديلة) أو (استئجار الأرحام)، فهذه من النوازل الحادثة التي نتجت عن ثقافات غرْبية غرِيبة، وتقننت بصور مختلفة في الغرب، ثم بدأت تدب إلى عالمنا المسلم تحت وطأة الحاجة أحياناً، وتحت حب التقليد أحياناً أخرى، وعلى كلٍّ فلا بد من بحث هذه النوازل وإبداء الحكم الشرعي فيها إذ لا تخلو نازلة من الحكم الشرعي فيها، والله أسأل أن يوفقني إلى ما فيه الرشاد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

التمهيد:

المطلب الأول: تقرير أن المحرم لا يمنع من البحث في آثار الحكم.

تعتبر الأم البديلة طرفاً ثالثاً خارجاً عن نطاق الزوجين، وبغض النظر عن كون المسألة غير مقبولة شرعاً فإنه إذا وقع هذا الأمر بالفعل، فلا بد من وضع ضوابط وأحكام لهذه المسائل.
وكون هذه الطريقة محرمة لا يمنع من وضع ضوابط وأحكام لها إذا نتجت منها آثارها.
وهنالك نظائر فقهية لهذه المسائل بحثها الفقهاء، إذ إن حرمة الشيء لا تمنع من البحث عن حكم آثار هذا المحرم إذا وقع فعلاً، وهذه الضوابط والأحكام هي:
-    يجب أن تكون الحاضنة ثيباً وذات زوج، إذ لا يجوز أن تعرض الأبكار والأيامى للحمل بغير زوج، لما في ذلك من شبهة الفساد، ولأن ذلك يهدد النظام الاجتماعي، ويتنافى مع طبيعة الأشياء والآداب العامة.
-    يجب أن يتم ذلك بإذن الزوج؛ لأن ذلك سوف يفوّت عليه حقوقاً ومصالح كثيرة نتيجة الحمل والوضع.
-    إن طلقت الحاضنة، فيجب أن تستوفي المرأة الحاضنة العدة من زوجها، خشية أن يكون في رحمها بويضة ملقحة، فلا بد أن تتأكد من براءته منهاً لاختلاط الأنساب.
-    نفقة المرأة الحاضنة، وعلاجها، ورعايتها طوال مدة الحمل والنفاس على أب الطفل مُلقِّح البويضة.
-    جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت هنا من باب قياس الأولى، لأن هذا إرضاع وزيادة.
-    إن من حق هذه الأم الحاضنة أن ترضع وليدها.
-    وهذه الأمومة يجب أن تكون لها مزايا فوق أمومة الرضاعة، ومن ذلك إيجاب نفقة هذه الأم على وليدها، إذا كان قادراً واحتاجت إلى النفقة(1).
والسؤال الذي يرد هو: ما مدى شرعية قياس إجارة الرحم على إجارة الثدي للإرضاع، أي: هل يكون قياس الأم البديلة على الأم المرضعة، بجامع استئجار منفعة عضو بشري في كل منهما، هيه تؤجر رحمها، وتلك تؤجر ثدييها؟
ولوجود صلة قوية بين عملتي الرضاعة والرحم المستأجر، وفي الوقت نفسه تُعد كلتاهما خدمة متبادلة، وعملاً إنسانياً ونوعاً من مساعدة الآخرين، وفي الحالتين كذلك، فإن اختلاط الأنساب مأمون، فإذا جاز استئجار هذا العضو (الثدي) للإرضاع، فلماذا لا يجوز استئجار عضو الرحم للحمل؟
فالثدي هنا يغذي اللبن لطفل غريب، والرحم هناك يغذي الدم لجنين غريب، فالتغذية تتحقق عن طريق الثدي والرحم، هنا باللبن، وهناك بالدم، وكلا من اللبن والدم يتجددان، بل إن الغذاء من الدم أبلغ من غذاء اللبن، وبالتالي فالصلة في الدم – الذي هو الأصل في تكوين اللبن – أقوى من الصلة في اللبن، وأيضاً فإن العاطفة والارتباط النفسي بين الأم البديلة وجنينها أشد وأقوى من العاطفة والارتباط النفسي بين الطفل ومرضعته، ثم إن المتاعب التي تواجهها صاحبة الرحم أكثر وأعظم من متاعب الأم المرضعة، فإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز قياس هذه على تلك في الحكم؟
أي هل يجوز أن نعطي حقوق المرضعة واستئجار الرحم تحت مظلة واحدة؟(2).

 

المطلب الثاني" القواعد التي تحكم مثل هذه المسائل.

التمهيد: بين يدي البيان للحكم التكليفي، والحكم الوضعي لهذه النازلة يعطي توطيناً للنفس بالوقوف على الحكم الشرعي بأمان من أبعاد النجعة في الرأي، ولهذا قواعد شرعية، ومواصفات علمية تنير السبيل في هذا البحث المهم الخطير.
القاعدة الأولى: تواطؤ علم الناس وعملهم على أن عملية الإنجاب في سيرها الفطري والشرعي تبدأ من التقاء عنصري التناسل بين الزوجين، فيعلق حيوان الزوج المنوي ببيضة زوجته أمشاجاً في رحمها في ذلك القرار المكين، لتنمو خلال عدة مراحل حيث تتكاثر الخلايا، وينفخ فيها الروح حتى تنتهي عملية الحمل بالولادة بإذن الله تعالى(3).
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:12-14]، وقال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق:5-7]، وقال تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) (المرسلات:20-23]، وقال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان:2].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح"(4).
القاعدة الثانية: لكل مولود بأبيه صلة تكوين ووراثة وأصل ذلك (الحيوان المنوي) فيه، وله بأمه صلتان:
الأولى: صلة تكوين ووراثة، وأصلها (البييضة) منها.
الثانية: صلة حمل وولادة وحضانة، وأصلها (الرحم) منها.
فهذا المولود المتصل بأبويه شرعاً وطبعاً، وعلى هذه تترتب جميع الأحكام الشرعية التي رتبها الله تعالى على ذلك، فإذا كان (الحيوان المنوي) من رجل غريب متبرع لزوجة رجل ما، فهذا أصبح مقطوع الصلة عقلاً وواقعاً، وطبعاً وشرعاً.
(فالولد للفراش وللعاهر الحجر)(5).
وإذا كانت (البييضة) من امرأة غريبة متبرعة لزوجة رجل آخر لقحت فيها فحينئذ انفصمت إحدى الصلتين قطعاً وهي (البييضة) من الزوجة ذاتها.
وهذا معلوم الانقطاع عقلاً وواقعاً، وطبعاً وشرعاً.
وإذا كان مجموع الخلية الإنسانية (الحيوان المنوي) من الزوج و(البييضة) ن الزوجة، لكن زرعا أو لقحا في رحم امرأة أجنبية متبرعة، فالصلة الثانية للأم وهي (الحمل والولادة) منفصمة قطعاً: عقلاً وواقعاً وشرعاً.
وعليه فإذا انقطعت الصلتان من الزوجة فهي ليست أماً بأي حال من الأحوال، ولا قائل بالأمومة من المسلمين ولا من سائر البشر أجمعين.
وإذا تحققت الصلتان كانتا أماً طبعاً وواقعاً وشرعاً.
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون:12-13]. وبإجماع المسلمين الضروري من الدين أن القرار المكين رحم الأم الشرعية لا غير.
قال تعالى: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) [النجم:45-46].
فالنطفة المحترمة من جميع الوجوه هي التي من الزوجين وهي محل الامتنان من الله على عباده، ولهذا قال سبحانه ممتناً على مريم عليها السلام: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) [مريم:28].
وقال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
وقال تعالى: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) [المجادلة:2].
وقوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [الزمر:6].
وقوله تعالى: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) [النجم:32].
وقال تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ) [لقمان:14].
وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف:15].
فالأم في هذه الآيات هي الأم الشرعية والأب المذكور في الآيات الكريمة والكثيرة في التنزيل هو: الأب الشرعي.
فالأبوة والأمومة الشرعية هي مجموع الهيئة الحاصلة لمولود وقع لقاحه وتكوينه بماء أبويه على فراش الزوجية فحملت به أمه في بطنها مستقراً في رحمها في قرار مكين، فهذا هو المولود الذي يكتسب الأبوة والأمومة الشرعية ومتى اختلت واحدة من هذه الصلات الثلاث فالحال كما علمت قبل في صدر هذه القاعدة مفصلاً.
القاعدة الثالثة: التدافع بين المضار والمنافع، فحيث وقع؛ فالحكم للغالب منهما حلاً وحرمة، وحيث استويا صار مجال نظر الفقيه.
وعليه: فغن صوراً من التلقيح الصناعي تخضع لهذه القاعدة فيخرج عليها بالمقابلة سوالبه ومنافعه، وهذا ما سنراه بإذن الله تعالى في بعض صوره التي يمكن تخريجها على هذه القاعدة.
القاعدة الرابعة: تفيد النصوص أن جسد الإنسان ومنافعه مملوكة له، لكن ليس له حق التصرف في هذا الملك إلا في حدود الشرع، فتصرفه منوط بالمصلحة شرعاً، فكما أن نعمة النظر مملوكة له فليس له مد نظره إلى ما يحرم النظر إليه، وكما أن الشهوة مركبة فيه وشرع له إطفاؤها بإراقة مائه في النكاح الصحيح وحرم عليه إطفاؤها بإراقة مائه في الزنا واللواطة، وكما ملكه الشرع أن يطأ لطلب الإنجاب في فراش الزوجية حرم عليه الإنجاب من غير الزوجية ووعاء الحمل، فتدبر، فكذلك ما يشبه هذه الصور، والله أعلم.
القاعدة الخامسة: أن مواطن الحاجات والضرورات لا يفتي بها فتوى عامة وإنما إذا ابتلي المكلف استفتى من تسوغ فتياه لدينه وعمله.
القاعدة السادسة: المتعين إخضاع البشر لشريعة الله، وعليه فلا يجوز العكس إجماعاً.
القاعدة السابعة: حفظ النسب والعرض من مقاصد الشرع الأساسية، وهما من الضروريات الخمس التي دارت عليه أحكام الشرع، فهذه الخلية الإنسانية من حين تدفقها بل وقبل ذلك وفي جميع مراحل تكوينها ونموها إلى استهلالها يجب أن تكون بيضاء نقية خالية من أي شيء يغشاها أو شكوك تحيط بها أو مخاطر تحف بها فهي بالغة الحساسية في التأثر بما يخل بكرامتها، فإن قيمتها الإنسانية ذات محل للعقل وتحمل للحنيفية السمحة، ولهذا صار من قواطع الأحكام في الإسلام: تحريم الزنا، والقذف، وسد جميع الأبواب الموصلة إليهما.
فكم من إشارة استفهام ستكون أمام حمل هذه المواليد الصناعية؟ وكم نجد من علامات التساؤل والاستفهام؟
وقد هيأت الزوجات بهذه الطريقة مجالاً واسعاً للخدش بالقذف والتجريح؟
فماذا سيكون وضع أمة مشكوك في أصل بنيتها وتكوينها؟
إن الشرع المطهر يوصد كل باب يوصل إلى ما هو أقل من هذا مما هو معلوم لكل من خبر الشريعة في مصادرها ومواردها، والله أعلم.
إن هذه القاعدة سد منيع للتلاعب بالخلية الإنسانية والبنية الآدمية.
فلنقل: ما هو حجم الاضطرابات والشكوك، وعوامل التجريح والخدش التي ستحدثها هذه النازلة في الآدميين، وما هي آثارها على النظام الاجتماعي وترابطه، بعدما اعترته هندسة الطب وجعلته ساحة للتجارب كالأمصال للبقر؟ وما مدى صدمات المستقبل التي سيواجهها الإنسان؟
وما مدى اضطراباته العارمة الهادمة لبنيته؟
وما مدى سحق الطفل الأنبوبي والمولود الصناعي للمولود الطبيعي؟
وبالتالي ما مدى سحق هذا للأخلاق والفضائل والكرامة والتكريم من الرب الرحيم بعباده بمسار هذا الآدمي في جوهر نظيف يحمد الشرع الحنيف، قال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة:49]، وعليه: فإن كل ما يفضي أو يغالب حفظ الأنساب والأعراض محرم شرعاً.
القاعدة الثامنة: واجب حملة الشرع من أهل العلم تمحيص مكتسبات العلم الحديث على ضوء التنزيل منعاً للمسلمين من التلبس بشطحات وهفوات العلم الحديث وواجب أهل الإسلام عدم الإقدام إلا بعد الفتيا من علماء الشريعة المستضيئين بنورها.
والتولي عن هذين الواجبين سقوط في الخطر، قال تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة:49](6).

 

المطلب الثالث: المحاذير الأخلاقية التي تبحث عن هذه المسائل.

إن عدم الخصوبة والعقم يشكلان مشكلة طبية في مختلف مناطق العالم، فقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن ما بين خمسة وعشرة بالمائة من الأزواج في سن الخصوبة يعانون من عدم الخصوبة (infertility) والعقم (sterility)، وفي الولايات المتحدة كان واحد من كل عشرة في سن الخصوبة يعاني من عدم الخصوبة والعقم وفي عام 1976م وفي عام 1984م كان واحد من كل ستة يعاني من عدم الخصوبة والعقم، وفي خلال العشرين عاماً الماضية بلغت الزيادة في عدم الخصوبة والعقم في الولايات المتحدة نسبة 300%.
ويرجع الباحثون هذه الزيادة إلى انتشار الأمراض الجنسية بسبب انتشار الإباحية والممارسات الجنسية الشاذة (250 مليون حالة سيلان "جونوريا" سنوياً في العالم، وحوالي ضعف ذلك من الكلاميديا.. وخمسين مليون حالة زهري أولي وثانوي في كل عام) بسبب انتشار الإجهاض المحدث (induced abortion) الذي كان يسمى الغجهاض الجنائي (criminal abortion) حيث بلغ عدد حالات الإجهاض عام 1984م خمسين مليون حالة أكثر من نصفها فيما يسمى العالم الثالث، وبسبب انتشار اللولب (i. u. d) لمنع الحمل حيث تستعمله مئات الملايين من النساء في العالم، لهذا كله فإن أي وسيلة لعلاج عدم الخصوبة تلقى ترحيباً لدى الدوائر الطبية والجمهور.
ومنذ عام 1987م عندما تمت ولادة لويزا براون أول طفلة أنبوب في العالم وحتى عام 1984م تم ميلاد ألف طفل بهذه الطريقة منهم 56 توأم ثنائية، وثمانية ثلاثية، واثنان رباعية، وفي عام 1986م كان عدد أطفال الأنابيب قد تجاوز ثلاثة آلاف طفل.
وانتشرت مراكز التلقيح الاصطناعي الخارجي (I v f) في مختلف أرجاء العالم منها 125 مركزاً في الولايات المتحدة، ومركزان في مدينة جدة، وآخر في الرياض بالمملكة العربية السعودية، وقد تم بالفعل ولادة امرأتين سعوديتين بهذه الطريقة (إحداهما لقحت في بريطانيا، والأخرى في جدة)، ومنذ فترة الستينات من القرن العشرين انتشر استخدام التلقيح الاصطناعي الداخلي (a. i.).
ومنذ السبعينات انتشرت بنوك المني في كثير من مناطق العالم وخاصة في الولايات المتحدة وأوربا، ومنذ ذلك الحين ظهرت طرق جديدة للتناسل غير الطريقة الطبيعية التي جعلها الله من اتصال الذكر بالأنثى، وقد بلغت هذه الطرق أكثر من 16 طريقة كلها مغايرة للفطرة.
وبما أن الإسلام لا يقبل طريقاً للتناسل سوى طريق الزواج، فقد أفتى علماء الإسلام الأجلاء بأن أي وسيلة للتناسل يستخدم فيها طرف ثالث هي لاغية وباطلة ومحرمة شرعاً وموجبة للتعزير لكل من يشترك فيها.
وتقصد باستخدام طرف ثالث استخدام مني رجل آخر أو بويضة امرأة أخرى، أو أن تحمل اللقيحة امرأة أخرى (رحم مستأجر) (surrogate mother)، أو أن تزرع خصية في رجل أو مبيض في امرأة، ولا بد لحصول التناسل أن يتم في إطار الزوجية أثناء قيام عقد الزوجية، فإذا انتهى العقد بموت أو طلاق انتهت عدته، أو طلاق بائن، فلا يجوز أن يتم التناسل بين هذين الشخصين مهما كانت الأعذار والدوافع، لهذا فإن معظم المشاكل الأخلاقية الناتجة عن استخدام التلقيح الصناعي بنوعيه الداخلي والخارجي، والتي شغلت الأطباء والقانونيين ورجال اللاهوت ورجال الإعلام في الغرب، لا ينبغي أن تقوم في البلاد التي تحكم بالشريعة الإسلامية، ذلك لأن استخدام التلقيح الاصطناعي الخارجي والداخلي بكافة طرقهما المتعددة مرفوضة في الإسلام ما عدا حالة واحدة فقط هي أن يتم التلقيح بين ماء الزوج وبويضة زوجته في حال قيام عقد الزوجية.
ومع هذا فهناك مشاكل أخرى قامت وستقوم رغم هذا التحديد الصارم للحالات المسموح بها وهي كالتالي:
1-    التلقيح الاصطناعي الخارجي باهظ التكاليف (ما بين أربعة إلى ستة آلاف دولار)، وبما أن معظم دول العالم تعاني من أزمات اقتصادية بما في ذلك الدول المتقدمة فإن هذه التكاليف الباهظة لا تستطيع أن تقوم بها الحكومات وخاصة في العالم الثلث حيث المشاكل الصحية الضخمة والخطيرة توجب تحويل المبالغ القليلة إلى ما هو أهم وأجدى وأنفع.
2-    نسبة نجاح التلقيح الاصطناعي لا تزال منخفضة (30%) في أحسن المراكز العالمية بينما لم تحقق بعض المراكز سوى نسبة ضئيلة من النجاح.
3-    احتمال حدوث خطأ في المختبر بحيث يوضع مني فلان مع غير زوجته.
4-    مع عدم وجود الرقابة الصارمة وخاصة في البلاد النامية هناك احتمال كبير بأن عامل الربح سيدفع من لا خلاق له باستخدام المني الجاهز من البنك أو من شخص آخر لتلقيح امرأة عقيم، وزوجها يعاني ندرة الحيوانات المنوية أو حتى غيابها الكلي (azospermia).
5-    يقوم الأطباء بتنبيه المبيض لإفراز عدد من البويضات قد تصل إلى 12 بويضة أو أكثر، فإذا قام الطبيب بتلقيحها أدى ذلك إلى وجود فائض من البويضات الملقحة، وهذا الفائض من البويضات الملقحة إما أن يعاد إلى رحم المرأة وهذا يؤدي إلى الإجهاض المبكر وإذا نجح يؤدي إلى الحمل المتعدد.
وكلما زاد عدد الأجنة في رحم المرأة كلما زادت الخطورة على حياة المرأة وحياة الأجنة، أو أن تجمد هذه الأجنة وهذا يؤدي إلى مشاكل عديدة وهي:
6-    إذا حملت المرأة ماذا يصنع بالأجنة الفائضة المجمدة؟
هل تستخدم لامرأة أخرى تعاني من العقم؟
وذلك مرفوض إسلامياً لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب.. بل إن هذا الجنين ليس جنينها ولم تشارك فيه لا هي ولا زوجها إلا في حمله وتغذيته وولادته، وقد قرر الفقهاء حرمة ذلك ووجوب تعزير من يقوم به وشارك فيه.
إذن هل تستخدم هذه الأجنة من أجل البحث العلمي؟ وذلك قد يفيد في معرفة كثير من الأمراض الوراثية والصبغية، وإلى أي يوم يجوز استخدام هذه الأجنة؟
أليس الجنين ولو كان عمره بضعة أيام له كرامة باعتبار ما سيؤول إليه؟
ورغم أن معظم الدول الغربية والاشتراكية تبيح الإجهاض إلا أنها حتى الآن لم تبح استخدام الأجنة.
وقد أباحت بعض اللجان المختصة استخدامها إلى اليوم الرابع عشر من عمر الجنين وذلك قبل تكوين الشريط الأولي الذي منه يتكون الجهاز العصبي.
فهل ترمى الأجنة الفائضة قبل تجميدها؟ أليس الاحتمال قوياً بأن تفشل محاولة الحمل لأولى فتعود المرأة ويوضع في رحمها الجنين المجمد بعد إعادته للحرارة الطبيعية، وذلك يعتبر خسارة وتعباً ومشقة على المرأة والأطباء على السواء.
إذن هل ترمى الأجنة المجمدة إذا حملت المرأة؟ أليس في ذلك تبديد وإسراف لمادة يمكن الاستفادة منها في معالجة عقيم أو في إجراء أبحاث.
7-    ظهر استخدام جديد للأجنة المجمدة وهو استخدامها للعلاج في نقل الأعضاء، وبما أن الأنسجة الجنينية قابلة للنمو في نفس الوقت لا يرفضها الجسم بنفس السرعة التي يرفض بها الأنسجة البالغة والنامية فإن استخدام هذه الأجنة في زراعة الأعضاء يشكل فتحاً جديداً في عالم الطب، ولكنه يشكل أيضاً قضية أخلاقية ودينية شائكة.
8-    اختبار الأجنة: يقوم الطبيب بفحص الجنين المجمد فإن وجد فيه عيباً ومرضاً استخدمه لأغراض أخرى، وإن لم يجد به عيباً أعاده إلى رحم أمه.
9-    إن نكاح الاستبضاع الجاهلي قد عاد مرة أخرى حيث تشتري المرأة من بنك المني ما يناسبها من مني رجل اشتهر بالعلم أو اشتهر بالذكاء أو اشتهر بالقوة... إلخ، وهذه الصورة واقعة في الغرب ومرفوضة تماماً في الإسلام.
10-    نفس الصورة السابقة بما هو أشد وأنكى، حيث تؤخذ الحيوانات المنوية من رجل اشتهر بالذكاء والقوة وبويضات امرأة اشتهرت بالجمال والذكاء ويتم تلقيح هذه البويضات لإنتاج سلالة بشرية ممتازة (النظرية النازلة)، ويمكن أن تباع هذه الأجنة الفاخرة إلى من يريد ويدفع الثمن.
وتعد الصورة التي يمكن أن يتم بها ذلك حيث يمكن أن تحمل المرأة هذا الجنين الممتاز أو ربما تستأجر له رحماً أيضاً، ثم يؤخذ الجنين بعد ولادته جاهزاً.
كل هذه الطرق المختلفة ستؤدي إلى تجارة الأجنة، وليس ذلك مستغرباً، فتجارة بنوك المني والأرحام المستأجرة قائمة على قدم وساق في معظم دول الغرب، وقد وافقت المجتمعات الغربية والقوانين والهيئات الدينية هناك على استخدامات بنوك المني، ولا تزال في جدل حول الأرحام المستأجرة والأجنة المجمدة.
11-    احتمال زيادة الأمراض التي تنقل عبر المني حيث يحمل المني جميع الأمراض الجنسية: السيلان، الكلاميديا، الهربس، الإيدز، الزهري... إلخ.
12-    احتمال زيادة التشوهات الخلقية حيث تتعرض الحيوانات المنوية والبويضات والأجنة المجمدة لتغيرات كثيرة حيث إنها تبقى فترة خارج بيئتها الطبيعية الفسيولوجية.
13-    المشاكل الاجتماعية والقانونية العديدة الناتجة عن التلقيح الاصطناعي بنوعيه الداخلي والخارجي، فمثلاً هناك ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب أصلاً نتيجة التلقيح بواسطة بنوك المني (AID) وكذلك مشكلات الأمهات المستعارات (SURROGATE MOTHER) ومن تكون الأم؟ أهي التي حملت وولدت أم صاحبة البويضة؟ ومن يكون الأب؟ أهو صاحب المني أم زوج المرأة صاحبة البويضة أم زوج التي حملت وولدت.
14-    أن التلقيح الاصطناعي لا يدخل سوى جزء ضئيل ونسبة محدودة من الحالات التي تعاني من عدم الخصوبة والعقم وبثمن فادح مالياً واجتماعياً وأخلاقياً وقانونياً.
15-    تؤدي التقنيات الجديدة في الإنجاب إلى إلغاء نظام الزواج وخاصة لدى الشاذات جنسياً اللائي يمارسن السحاق، وقد ظهرت موجة في الغرب من السحاق وموازية اللواط، وأدى ذلك حين ترغب الشاذة في النسل، إلى أن تذهب إلى بنك المني ويلقحها الطبيب بالمني الذي تختاره من الكاتالوج دون أن يمسها رجل.
16-    تؤدي التقنيات الجديدة إلى ما يسمى باختيار السلالة البشرية، وتتفرغ مجموعة من النساء فقط للحمل وذلك بأخذ الأجنة جاهزة من البنك بحيث يمكن أن تحمل عشرات أو مئات النساء من هذه السلالة المرغوب فيها، كما يصنع حالياً في الأبقار والأغنام والخيول والكلاب.
17-    في الحالات التي تستخدم فيها زراعة الخصية بالنسبة للذكر وزراعة المبيض بالنسبة للأنثى، فإن الحيوانات المنوية في صفاتها الوراثية ستعود إلى صاحب الخصية وكذلك البويضات ستعود إلى صاحبة المبيض، وبذلك تعود مشكلة اختلاط الأنساب، والإسلام يرفض ذلك رفضاً باتاً.
18-    لا بد من أن زرع الرحم سيشكل عقبة أمام الفقهاء وخاصة إذا كان من امرأة توفيت وأوصت بالتبرع برحمها، أو أنها قد جاوزت سن الحمل أو أن لديها عدداً كافياً من الأطفال... إلخ، أو أن مبيضيها قد أزيلا ولم يبق لها إلا الرحم ولا تستطيع أن تحمل إلا باستعارة بويضة من مانحة، وهو أمر محرم في الإسلام، فتتبرع آنذاك برحمها لمن تملك المبايض ولكن رحمها قد أزيل بعملية جراحية.
وهكذا يبدو أن المشاكل الأخلاقية والدينية والقانونية الناتجة عن تقنيات الإنجاب عديدة ومتنوعة، وهذه التقنيات الحديثة رغم براعتها لن تحل مشكلة عدم الخصوبة والعقم ذلك لأن أسباب المشكلة لم تحل بل إن الأسباب المؤدية إلى انتشار العقم وعدم الخصوبة تزداد يوماً بعد يوم.
لهذا فإن الحل الحقيقي يكمن في علاج أسباب العقم وعدم الخصوبة والوقاية منها.
وبما أن أهم أسباب عدم الخصوبة والعقم تتمثل في الأمراض الجنسية، والإجهاض، واستخدام اللولب، فإن الإسلام بتعاليمه التي تمنع الزنا والشذوذ الجنسي وتمنع الإجهاض، وتمنع استخدام اللولب ومن بينها عدم الخصوبة والعقم، ولا مانع من استخدام الوسائل الطبية المتاحة في علاج حالات عدم الخصوبة والعقم بشروط:
أولاً: أن لا تسبب هذه الوسائل اختلاطاً في الأنساب.
ثانياً: أن لا تلغي نظام الزواج والأسرة.
ثالثاً: أن تعالج الأسباب الحقيقية، وبما أن معظم أسباب عدم الخصوبة يمكن الوقاية منها بتجنب الزنا والعلاقات الجنسية غير السليمة مثل الوطء في المحيض وإتيان أدباء النساء واللواط، وتجنب إجراء الإجهاض دونما سبب طبي قوي، وتجنب استخدام اللولب.. إلخ، فإن اتخاذ أسباب الوقاية هذه – وهي من تعاليم الإسلام الأساسية – يؤدي إلى خفض نسبة المصابين بعدم الخصوبة وبالتالي خفض تكاليف علاجها(7).
كما أثارت مسألة تأجير الأرحام العديد من القضايا الأخلاقية والمشكلات المعقدة داخل المجتمع الغربي، وترتبت عليها مفاسد وأضرار أسرية ونفسية واجتماعية تفوقت كثيراً على إيجابياتها والمصالح التي تحققها، وقد رصد الباحثون والمهتمون بهذه القضية هذه السلبيات والمفاسد، ونذكر منها سوى ما سبق ما يلي:
أولاً: اصطباغ الأمومة بالصبغة التجارية، وتصبح آنذاك سلعة تُباع وتُشترى، بعد أن كانت محاطة في جميع الأديان، والأعراف الأخلاقية بالتبجيل والاحترام.
ولقد انتشرت وكالات متخصصة لتأجير الأرحام في دول الغرب(8)، وتحولت هذه الأرحام إلى سوق تجارية للربح المادي.
وباتت الأم البديلة صاحبة الرحم المستأجر تشعر من الناحية النفسية بالاستغلال بمجرد اشتراكها في برنامج الأمومة النيابية(9)، لأن هذه الوكالات والشركات التجارية الخاصة بتأجير الأرحام، ما هم إلا سماسرة يستثمرون كلا الطرفين ويستغلونهم استغلالاً(10).
ومن مخاوف هذه العملية – كما ذهب إلى ذلك فريق من الباحثين – فتح باب على النساء الفقيرات على أداء عمل كهذا تحت وطأة الحاجة الاقتصادية، ويصبح الطفل سلعة تباع وتشترى باسم الإنسانية، وتحت شعار: تحقق أمنية الأسرة المحرومة.
فالأسرة ذات المال والجاه لا تريد لابنتها أن تتحمل متاعب الحمل وآلام الولادة، وتريد أولاداً، فما عليها إلا أن تقدم البويضة فقط، وعلى الأم المستأجرة أن تقوم بالحمل والولادة امرأة تبيض وأخريات يحمل ويتألمن ويعانين آلام الحمل والمخاص، ومن ناحية أخرى فقد يهيئ هذا الأسلوب الفرصة للمرأة المترفة الثرية وزوجها الثري أن يملكا عدداً كبيراً من الأطفال(11)، في مدة قصيرة – إن أرادا ذلك – وذلك عن طريق سحب بويضاتها، وتلقيحها بماء الزوج، ثم زرعها في عشرات البطون المستأجرة والأمهات البديلات، ودفع أثمانها، فتحصل المرأة الواحدة على عشرات الأطفال في عام واحد، وهي لم تحمل، ولم تضع، ولم ترضع.
ثانياً: القضايا والمشاكل التي تحدث بين الأمهات صاحبات البويضة ضد الأم المستأجرة؛ لأن الأخيرة قد ترفض تسليم المولود لصاحبة البويضة على الرغم من أنها تفي بعقدها وتدفع لها الثمن كاملاً.
لأن الأم هذه تشعر أن هذا الجنين يخرج من بين أحشائها، ومشاعرها تتغير بالحمل والولادة، فتشعر أنها أم ذلك الطفل، ولا تستطيع التفريط به آنذاك، ولا تصبر على فراقه، حيث قام بينها وبينه نوع من الروابط النفسية أثناء الحمل، فهي ومن قبل أن تراه تشعر به وتحبه، وتتصور شكله(12)، ولأنها عانت من آلام الحمل وأوجاعه ما لا يقدر بمال مهما بلغ، فتتمسك بالطفل بعد ولادته، وتضرب بالعقد عرض الحائط.
وإذا ما انتزعته المحاكم منها، فقد تصاب بجرح عاطفي غائر، أو مرض نفسي خطير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يكون سبب الخلاف والمشاكل هو عدم تسلم الطفل من قبل صاحبة البويضة وزوجها لكون الطفل ولداً معاقاً.
ثالثاً: هذه العملية قد تغطي معنى الأمومة بحاجز ضبابي، يجعل هذا المفهوم غير واضح، فبعد أن كانت الأم، وعلى مر التاريخ الإنساني، هي صاحبة البويضة التي تنقل إلى الجنين الصفات والسمات الوراثية، وهي نفس الوقت، هي التي كانت تحمل وتضع وترضع وتربي وهي التي ترتبط بالطفل بعلاقة من أسمى العلاقات الإنسانية وأرقها.
فأصبح الآن نوعان من الأم: الأم البيولوجية، والأم الحامل للجنين.
وتداخلت الأمور، واختلف الناس في هذا المعنى الواضح الجميل، من هي الأم؟ وهذا الاختلاف قد يؤدي إلى تنازع الولاء عند الطفل بعد الإنجاب، هل سيكون ولاؤه للأم البيولوجية، صاحبة البويضة، أو للأم التي حملته، وأرضعته من ثدييها، لذلك قد يتعرض الطفل إلى هزة نفسية، إذ إنه لن يعرف إلى من ينتمي بالضبط، ومعرفة انتمائه تساعده على التوصل إلى هويته.
ومع ذلك فهناك اتجاه آخر يرى خلاف ذلك(13) ويرفض اعتبار ذلك من جملة السلبيات، إذ يعتقد هؤلاء أن الطفل الذي يولد نتيجة حاجة ملحة سيكون محبوباً أكثر من أي طفل آخر، وسوف يحصل رعاية لا يحلم بها الأطفال الذين يولدون بالطريقة العادية، وسيجد من الحب ما لا يجده عند الآخرين، فيكون بذلك تعويضاً عما فات الطفل من الولادة الطبيعية.
وهناك محاولات من العلماء الآن للتوصل إلى اختراع رحم صناعي يقوم بمهمة الحمل كاملة، وهذا مما يزيد الأمر غموضاً وضبابية ولبساً، والطفل في هذه الحالة سيصبح مثل صغار الدجاج، كل ما علينا هو أن نوفر له الغذاء والجو المناسب، لكي تتسلمه الأم، كامل النمو، بعد تسعة أشهر، أو ربما أقل من ذلك إذا تطورت التكنولوجيا في هذا المجال(14).
رابعاً: الرحم في نظر الإسلام له حرمة كبيرة، وليس هو موضع امتهان أو ابتذال حتى يستأجر؛ لأن الرحم عضوٌ بشري له علاقة شديدة بالعواطف والمشاعر أثناء الحمل، ليس أمره كاليد والرجل، يُمكن استئجار صاحبها لأجل العمل، أو استخدام الجسد في حالة الرياضة، أو الأعمال اليدوية كحمل الأشياء ونقلها، وغيرها من الاستخدامات التي لا تدخل فيها أي مشاعر أو عواطف، واستئجار الرحم يُعد استهانة بالكرامة الإنسانية، والله تعالى يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء:70].
ويدخل ذلك في إطار هذه الرحمة والمرأة لا تملك حق تأجير رحمها، لأن إثبات النسل ووسائل الإنجاب من حق الشارع وحده، فلا تباح بالإباحة، ولأن استئجار الرحم يدخل في موضوع الفروج والأصل في الفروج الحرمة.
خامساً: هذه العملية قد تؤدي إلى اختلاط الأنساب في كثير من صورها الرائجة في الغرب، إذ قد يدخل طرف ثالث في القضية على شكل مني أو بويضة(15).

 

________________________

(1)    مجلة العربي، العدد 232، ربيع الأول 1398هـ، تحت عنوان: قضايا علمية تنتظر أحكامها الشرعية، ثبوت النسب، دراسة مقارنة، د. ياسين الخطيب، ص 32، دار البيان العربي، جدة، ط1، 1987م؛ مجلة البلاغ الكويتية، العددين 486، 487؛ وانظر: الإنجاب في ضوء الإسلام، ص 168، 169.
(2)    دراسات في قضايا طبية معاصرة، الأم البديلة رؤية إسلامية: الدكتور عارف علي عارف، ص 813-815.
(3)    الطب الإسلامي: أحمد شرف الدين، (مقال)، ص391.
(4)    أخرجه البخاري 3/1174-1175، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، حديث رقم (2969)؛ ومسلم 16/189، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابه، حديث رقم 4781).
(5)    أخرجه البخاري 5/192، في كتاب الحدود، باب للعاهر الحجر، حديث رقم (6318)؛ ومسلم 2/1080، في كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، حديث رقم (2645).
(6)    مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثالثة، ج1 ص434-440، 1408هـ - 1987م.
(7)    من بحث الدكتور محمد علي البار بعنوان القضايا الأخلاقية الناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجاب (التقيح الصناعي)، ص 461-468، بحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثالث، 1408هـ/1987م.
(8)    وكانت أول وكالة يتم افتتاحها في أوروبا هي: الوكالة الدولية الأوروبية لتأجير أرحام السيدات، بمدينة فرانكفورت الألمانية، وأول وكالة مماثلة أمريكية هي من ولاية ميشيغن، وتعتبر شركة ستوركس (STORKS) من الشركات الرائجة في مجال التجارة بالأرحام. انظر: جريدة المسلمون، في 28 مارس 1997م، العدد: 634، وكالات لتأجير الأرحام وشتل الجنين.
(9)    وتأجير الأرحام هناك له تكاليف باهظة، وقد تكلف أكثر من خمسين ألف دولار، وحصة الأسد من هذه الأموال تأخذها هذه الشركات، وليست للأم البديلة إلا نسبة بخسة منها. انظر: المصدر السابق، رأي الدكتورة مديحة الصيفي، أستاذة علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، جريدة المسلمون، المصدر السابق.
وفي العشر سنوات الأخيرة لوحظ زيادة التعامل التجاري للولادة عن طريق تلك الوكالات المتخصصة في المدن الرئيسة في الغرب، وهذه الوكالات لديها قوائم بأسماء الأمهات البديلات لتساعدهن في التعرف على الأزواج الراغبين في هذه العملية، وتدار هذه العملية عن طريق أطباء ومحامين، ومن السهل التعرف عليها عن طريق دليل الهاتف، أو عبر منظمة محلية، أو جمعيات طبية، أو عن طريق شبكة الإنترنت.
(10)    وهناك اتجاه في الفقه الغربي ينادي بحرمة استئجار الرحم بسبب ورود جانب الاستغلال فيه، سواء بإجبار الطرف الثاني أو حتى برضاه، فهذه لجنة وارنك WARNOK، وهي لجنة أخلاقية طبية في بريطانيا، اعتبرت هذه العملية نوعاً من الاستغلال للآخرين، وأوصت بمنع دخول طرف ثالث في عملية الإخصاب الخارجي. انظر: الهندسة الوراثية والأخلاق، ناهدة البقصمي، ص 187؛ قضايا طبية معاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية، 1/20؛ جمعية العلوم الطبية الإسلامية، المنبثقة عن نقابة الأطباء بالأردن، دار البشير، 1995.
(11)    أعلنت إحدى الأمهات البديلات السيدة: كوتن، أنها وافقت على القيام بهذه المهمة من أجل الحصول على المال لتغيير ستائر منزلها وأثاثه. ناهدة البقصمي، مصدر سابق، ص 187.
(12)    رأي الدكتورة منال حمزة، عضو الهيئة الطبية بعيادات الحرس الوطني بجدة، جريدة المسلمون.
(13)    البقصمي، ص 180.
(14)    دراسات فقهية، ص808-812.
(15)    انظر: المسائل الطبية المستجدة في ضوء الشريعة الإسلامية، للدكتور محمد عبدالجواد النتشه، ص 309؛ أطفال الأنابيب بعين العلم والشريعة، زياد عبد النبي، ص 105.