خريف المناصب وربيعها!
12 محرم 1432
د. عبدالعزيز العبداللطيف

لئن كان ابن القيّم قد حكى أن في فصل الخريف تكثر الأمراض ويعظم فساد الهواء.. إلا أن هذا الخريف "القاتل" هو ربيع عند آخرين!! فقال - رحمه الله - "فقد جرت عادة الصيادلة ومجهزي الموتى أنهم يستدينون، ويتسلّفون في الربيع والصيف على فصل الخريف، فهو ربيعهم، وهم أشوق شيء إليه، وأفرح بقدومه" الهدي 4/41

 

وأما في هذه الأيام فإن شهر ربيع القادم قد بات خريفاً معكّراً، وشهراً مقلقًا لدى بعض المولعين بالمناصب! فأولئك الهائمون يخشون أن يكون هذا الربيع خريفًا تتهاوى معه أوراقهم ومناصبهم.
وذاك الهلع على المناصب باعثه أمران:- سكر المال وسكر المنصب "ومتى إفاقة من به سُكْران!".

 

ويُخاطب هؤلاء كما خاطب ابنُ تيمية ملكَ قبرص فقال:- "وأما الدنيا فأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال، وغاية ذي الرياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليمّ انتقامًا منه، وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" مجموع الفتاوى 28/615

 

ومع وقوع التعيين أو الإقصاء عن مناصب ووظائف إلا أن العلم الشرعي لا يخضع لذلك، ولذا قال الباجي رحمه الله:- "والعلم وِلاية لا يُعزل صاحبها ولا يَعرى من جمالها لابسها" وقال ابن تيمية:- "والمنصب والوِلاية لا يجعل من ليس عالماً مجتهداً عالماً مجتهداً" مجموع الفتاوى 27/296

 

وإن حب المناصب والحرص والتكالب عليها يفسد دين المرء كما في حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه" أخرجه الترمذي.

 

وإن الذي يزجر النفوس عن سُعار المناصب والافتتان بها هو استصحاب أن هذه المسؤوليات إنما هي حقوق وتبعات، فهي أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، وأن جميع الوِلايات إنما نُصبت لأجل إقامة دين الله وإصلاح دنيا الناس، وأن أربابها الأكفاء هم الأمناء الأقوياء، وأن يعي العامة وأشباههم خطورة الوِلايات وفداحة شأنها، وأن أربابها أحوج إلى الرحمة والإشفاق، وأعظم افتقاراً إلى عون الله وتسديده.

 

وأخيراً تأمّل ما قال ابن القيم ثم قارنه بواقعنا وحالنا.. يقول ابن القيم:- "وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالوِلايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء، تجنباً لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن بُلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم، فمشى إليهم ولم يقل إلا خيراً، ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك" أحكام أهل الذمة 1/206.