تجديد الخطاب الدعوي - العودة إلى التربية القرآنية

من الملاحظ عند بعض الدعاة في هذه الأيام وخاصة الذين يتحدثون من خلال الخطب أوالأحاديث في القنوات الفضائية ، من الملاحظ أن هؤلاء إما أن يركز أحدهم على الإعجاز العلمي في القرآن ويأتي بالآيات التي يؤيدها العلم الحديث مع مبالغات أحيانا وتكلف  وتنزيل للآيات على نتائج بعض المكتشفات الحديثة ، وقد تكون نظريات تحتمل الخطأ والصواب (  إن التوسع في هذا المجال والاكتفاء به يبعد الناس عن أهداف القرآن الأساسية وهو هداية البشرية لما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة ، وأعني التحدث عن جميع محاور القرآن ، ولعل التحدث فقط عن الإعجاز العلمي مما يريح المتكلم لأنه لايصادم أحدا ولايعارضه الذين يأنفون من الخضوع للإسلام خضوعا تاما )

وإما أن يركز البعض على توحيد العبودية باعتبار أنه الغاية من توحيد الربوبية ، وهو المطلوب من العباد ،وأيضا بسبب مايقع فيه الناس من الجهل بأنواع الشرك أوالخروج عن ربقة الخضوع للدين . ونحن إذا تدبرنا القرآن نجد أنه في السورة الواحدة يذكر أحوالا تتعلق بخلق الإنسان ، وأمورا تتعلق بالجزاء على العمل ،وأمورا تتعلق بالحياة المعاشة من اجتماعية أوسياسية أواقتصادية ، أي أن القرآن لايفصل بين النظر في آياته الكونية التي تستثير النفس إلى النظر في بديع خلق الله مما يجعلها تطامن من غرورها وتفكر في الخالق وبين الدعوة لأن يكون الإنسان عبدا لله في كل شؤون حياته .

لايصح إهمال جانب النظر في آيات الله في الآفاق أوالتقصير فيه لأن ذكر هذه الآيات يملأ النفس خشوعا وإجلالا لله سبحانه ، والقرآن يعرض الكون ومظاهره وحقائقه وهو في الوقت نفسه يؤسس للتوحيد وينفي الشركاء قال تعالى : ((ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)) [الروم / 22-23]

((والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع  ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون...)) ( النحل ) 5-6

((أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون...)) الواقعة / 68/ 69

ينبغي أن تملأ عظمة الله نفوسنا، وتسجد لهذه العظمة عقولنا، وتخشع لآثاره قلوبنا. وطريقة القران في تثبيت العقيدة هي توجيه النفس  إلى الاستدلال بالمخلوقات على الخالق وأن الذي أبدع هذا الكون هو الذي يجب أن يعبد لا غيره.

والقران حافل بالآيات التي تتحدث عن هذا الجانب يقول ابن القيم: " النظر في مصنوعاته وخلقه وما فيها من النفع والمصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى، وما فبها من الإحسان، دال على رحمته وما فيها من الكمالات، دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) أي أن القران حق (1) ويقول أيضا تعليقا على قوله تعالى ((وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)) أخبر سبحانه أنه جعلها مهادا وفراشا وقرارا وكفاتا وأنه دحاها وطحاها وثبتها بالجبال وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها وتستر قبائح العبد وتضمه وتؤويه" (2)  

أنزل الله سبحاه نوعين من الآيات : آياته المنزلة (القران) والآيات في الطبيعة، المسلمون اليوم يقرؤون الأولى ولا يفكرون تفكيرا متأملا متدبرا في الثانية وهي آيات تدل على صنع الله وعظمته وكرمه ورأفته بالإنسان وهذه الآيات معروضة أمام أعين كل البشر، مفتوحة للناس، ولو كانوا أميين، ولو كانوا صغارا أو كبارا. نعم، كان المشركون العرب عندما بعث محمد صلى الله عليه وسلم يعلمون أن الله هو الخالق وهو الرازق ، ولكنهم لم يفكروا في عظمة الله ومخلوقاته، وعجيب صنعه حتى يصلوا من المقدمة إلى النتيجة المنطقية وهو أن الله هو الذي يستحق العبادة والخضوع وليس الأصنام التي يعبدونها لتقرهم إلى الله زلفى.

والقران عندما يكرر ذكر نعمته على خلقه وتسخير الكائنات للإنسان وبديع صنعه، وذلك حتى يبقى الإنسان على صلة بالله سبحانه ويزداد قربا منه وحتى يكون شاكرا لله مبتعدا عن النكران والجحود.

والمسلم له علاقة حميمة مع الكون، ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى السلم الهلال أول الشهر: " اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله"

وعند عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك وقد اقترب من المدينة ورأى جبل أحد قال (هذا جبل يحبنا ونحبه ) القران يتحدث عن هذا الكون وكأنه  كائن حي ((وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت...)) ويتعمق إحساس الإنسان لكل ما يحويه  الكون من كائنات وله صلة بها، الجماد والنبات والحيوان والبشر، هذا الكون تنطق آياته بوحدة الخالق المدبر، وأنه إليه المنشأ وإليه المصير.
=============================
1- الفوائد / 32
2- الفوائد / 28