ثبت في صحيح الإمام مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال، قلت: يارسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسال عنه أحداً بعدك (وفي رواية غيرك) قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم)).
وههنا وقفة تربوية يحسن أن نتفطن إليها، إن طلب الوصية يدل على خير متجذر في النفس، بعض الناس إذا بذلت له النصح أبى وأعرض وصَعَّر خدَّه، ومن الناس من يجيئك راغباً قائلاً: انصحني.. قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك! فشتان ما بينهما، وهذا مما يبين لك فضل ذلك الجيل، فإن مبادرتهم لطلب النصح والإرشاد كانت سمتاً عاماً، فهذا يقول: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، وذلك الأعرابي يقول: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة(1)، وثالث يقول: دلني على عمل يعدل الجهاد(2)، ورابع يقول: دلني على عمل أنتفع به(3)، وخامس يقول: أوصني قال لا تغضب(4)، وسادس يقول: إني أريد أن أسافر فأوصني(5)، وأبوبكر رضي الله عنه يجيء فيقول: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي(6)، وفي حديث أبي رفاعة عند مسلم: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال فقلت يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه قال فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدا قال فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها(7)، وفي مسلم أيضاً: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني كلاما أقوله قال قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا سبحان الله رب العالمين لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم قال فهؤلاء لربي فما لي؟ قال قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني(8)، وعن معدان بن طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: دلني على عمل ينفعني الله به ويدخلني الجنة؟ فسكت عني مليا ثم التفت إلي فقال: عليك بالسجود.. الخبر(9)، وأمثال هذه الآثار كثيرة جداً. والمتأمل فيها يجد السائل تارة من الأكابر العلماء وتارة من الأعراب، فطلب الوصية إذاً صبغة ذلك الجيل كل الجيل وهذا من جملة فضلهم، وبعض الناس يأنف من طلب النصح أو الوصية ولو ممن هو أعلم وأجل قدراً منه، وهذا ضرب من الكبر والجحود الذي يفوت به المرء على نفسه خيراً يعرفه الذكي ولا يدركه البليد ولا يعبأ به، أما من كملت عقولهم فيطلبون الوصية والعلم حتى عند مَنْ هم دونهم إن علموا أن عندهم ماليس معهم، وقد لقي نبي الله موسى عليه السلام في سفره النصب من أجل أن يقول للخضر عليه السلام –وهو دونه منزلة- : "أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً"(10)، وفي التنزيل: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً).
فاحرص أخا الإسلام على ما ينفعك، فلعلك تسمع كلمة تعود عليك بالخير العميم في دنياك وآخرتك.
غير أن العاقل لا يطلب الوصية من كل أحد، ولكن ممن عرف بالتمييز في العقل والعلم، وظن أن عنده ما ينتفع به.
_____________________
(1) حديث أبي هريرة المتفق عليه أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقض منه فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. البخاري (1333)، ومسلم (14).
(2) كما في البخاري (2633)، فقال له: (لا أجده)، قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر )، قال: ومن يستطيع ذلك . قال أبو هريرة إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات، وأخرجه مسلم في الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى رقم 1878.
(3) كما في حديث أبي برزة عند ابن ماجة (3681) بسند صحيح قال قلت: يا رسول الله دلني على عمل أنتفع به؟ قال: "اعزل الأذى عن طريق المسلمين"، وهو عند مسلم بلفظ علمني (2618).
(4) صحيح البخاري (5765).
(5) كما في حديث الترمذي (3445) عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلا قال يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني قال عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف فلما أن ولى الرجل قال اللهم اطو له الأرض وهون عليه السفر.
قال هذا حديث حسن.
(6) كما في البخاري (6953) وغيره، قال : "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً وكثيراً ولا يغفر الذنوب إلاّ أنت فاغفر لي من عندك مغفرة إنك أنت الغفور الرحيم".
(7) مسلم (876).
(8) مسلم (2696).
(9) رواه الترمذي (388) وقال في آخره بعد أن ساق الخبر المرفوع هذا حديث حسن صحيح.
(10) صحيح البخاري (3220).