الصيف والترويح ..أين الإشكال ؟!

بدخول فصل الصيف وموسم العطل تُطرح قضية الترويح عن النفس، فتجد الناس مختلفين حول هذا الموضوع، منهم من يرى الترويح عن النفس واجبا بعد طول عمل وكد وجهد جهيد طيلة السنة ولا يرون لذلك الترويح ضوابط ولا قيود ويعتبرون أية شروط عبارة عن تضييق لأنشطة من حقهم لتجديد النشاط وتغيير الأجواء ، ومن الناس من يضيق على نفسه أشد التضييق ويعتبر الترويح عن النفس من الكماليات بل مضيعة للأوقات، ولا يجوز لمؤمن أن يقترف نشاطا فيه ترويح عن النفس لأن الترويح الحقيقي برأيهم هو حين يطأ بقدمه أرض الجنة، ففيها الترويح والترفيه الدائم. وهذه معتقدات وأفكار خاطئة ولاشك، كِلاها جانبت الصواب وحادت عن الوسط، والأحق بالإتباع القول بأن الترويح عن النفس مطلب مشروع يحث عليه الإسلام وجاءت الأدلة على ذلك كثيرة وصحيحة، لكنه ترويح يظل مشروطا تقيده ضوابط  كأي نشاط إنساني وحياتي يبتغي به المسلم وجه الله تعالى وحده.
 
أهمية الترويح عن النفس
يمكن تعريف الترفيه عن النفس أو الترويح عنها بمثابة أنشطة نافعة لجسد الإنسان وعقله وذهنه وأعصابه تجعله يجدد نشاطه بعد أوقات من العمل المكثف والمضني، فتكون سويعات الترويح في ما ينفع وفق منهج الله تعالى وما يرتضيه لعباده دون إفراط ولا تفريط.
وتبرز أهمية الترويح عن النفس في كونه وعاء زمني ونفسي لتفريغ الشحنات الانفعالية التي تتكون جراء أنشطة متصلة من العمل في شتى المهن والمجالات أو من الدعوة إلى الله تعالى، في ظل عصر أصبح يتسم بالسرعة في كل شيء، في لغة الخطاب والتواصل وفي إنجاز الأشغال وتنفيذها وفي أوقات الأكل والشرب والنوم ومختلف المهام الإنسانية، فأضحى هذا العصر عصر سرعة بامتياز، ومعلوم
أن السرعة تثير أعصاب المرء وتجعلها مستنفرة لأنها تتم على حساب إرباك لحسابات الأعصاب والمشاعر الحسية التي تفضل الهدوء والتروي.
وهذا السباق والركض المتواصل للعيش والحياة في امن وأمان وكرامة يستوجب أن تعقبه أو تتخلله أيضا أوقات يتم تخصيصها للراحة النفسية عبر وسائط ترفيهية من ألعاب جسدية أو ذهنية أو جلسات عائلية مفيدة يبتعد فيها الإنسان عن كل ما كان يشغله أثناء العمل وجهده وضغوطاته التي لا تنفك تتسارع وتتزايد بحكم وتيرة الحياة الراهنة.
 
والترويح عن النفس وسيلة لا غاية، فهي تحقق ـ إن تم تجسيدها وفق ضوابطها الشرعية ـ التوازن بين جسد منهك وعقل مُتعَب وبين اللاشعور الداخلي للمرء الذي يطلب نوعا من التسرية والتنفيس عنه، كما أن الترويح عن النفس هو في حد ذاته تصريف لشحنات نفسية متراكمة قد تنحو منحى سيئا إذا لم يتم تصريفها عبر بوابة الترفيه المشروع عن النفس، وهو وسيلة أيضا لاكتساب مهارات بدينة وذهنية
وفكرية جديدة من خلال ممارسة أنشطة تزيل الكآبة عن النفس وتحارب الملل والسأم الذي يعتبر عدو كل تجديد داخل الإنسان.
 
والترويح ـ فضلا عن كل هذا وذاك ـ يطهر النفس من شوائب القلق والاكتئاب الذي أضحى يغمر العديد من النفوس في الحياة العصرية، بل إنه وباء هذا الزمان بحق.
 
وتشير إحصائيات جديدة ومفزعة أصدرتها وزارة الصحة المغربية حول مثل هذه الأمراض النفسية العصرية  إلى أن زهاء نصف المغاربة مصابون بأمراض نفسية مختلفة، وأن ربعهم مصابون بالاكتئاب، مبرزة أن   ثلاثة ملايين مغربي يعانون من القلق المستمر، و300 ألف شخص مريض بانفصام الشخصية وحوالي مليون شخص مريض بالخوف المَرَضي من الآخر ومن المجتمع، و1.8 مليون شخص مريض بالوسواس القهري..وهذه كلها أمراض نفسية تعود بالدرجة الأولى إلى البُعد عن الدين وإلى عدم تحقيق توازن بين متطلبات الجسد والعقل والروح وإهمال جانب الترويح عن النفس بما شرعه الله من حلال وطيبات عديدة.
 
أدلة وأمثلة
وقد يجادل أحد الرافضين للترويح عن النفس في جواز هذا المطلب النفسي والإنساني الغريزي والفطري بكونه مجرد مضيعة للأوقات وطريق للملهيات وتشجيع للمغريات، لكنه لو صبر وتأنى في حكمه حتى يتأمل في أدلة جواز الترويح عن النفس في الحدود والضوابط التي شرعها الله تعالى، لوجد أن الترفيه عن النفس مارسه أكرم الخلق وأفضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث عنه ودعا إليه في غير حديث واحد، وكان يقوم به الصحابة الأجلاء والسلف الصالح دون إفراط ولا تفريط ابتغاء مرضاة الله تعالى، فالترويح عن النفس يكون من أجل تجديد نشاطها لعبادة الله وإقامة وحدانيته وتحقيقها ولتعمير الأرض بكل ما هو صالح وخير ومفيد للناس أجمعين.
 
وأدلة جواز الترويح والحث عليه كثيرة ذكرها العلماء وفصلوا فيها، وبعدهم الدعاة والدارسون والكتاب، ويمكن في هذا المقام سرد بعض هذه الأدلة، منها الحديث المعروف "ساعة وساعة" للصحابي الجليل حنظلة رضي الله عنه الذي مفاده أن حنظلة  شعر بكونه وأصحابه أصابهم نوع من النفاق حيث كانوا يعيشون حالة من التدين السامي وهم بحضرة الرسول الكريم لكن ما إن يفارقونه حتى يعودوا إلى طبائعهم البشرية المجبولة على حب الأزواج والأولاد والخيرات وما يستلزم ذلك من اللعب والترويح عن النفس، لكن الرسول الكريم ثبت حنظلة ولم يوافقه الرأي..وهذا نص الحديث: روى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما ذاك؟." قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة..".
 
وجاء عـن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا ذا الأذنين..وهو نوع من المزاح الذي ينم عن ترويح عن النفس في لغة الخطاب والتواصل..وعن عائشة رضي الله عنهـا أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته
وسبقته على رجلي، فلمـا حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك". وهذا دليل واضح على أن الرسول الكريم كان يلاعب زوجته عائشة وسائر زوجاته ويضاحكهن ويروح عن نفسه معهن ويروح عنهن أيضا بهذا النوع من اللعب البرئ المشروع.
 
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏: "‏روحوا القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان"، وفي هذا إشارة بليغة أن القلوب تسأم مثل الأجساد ودواء سئمها: الترويح عن النفس بما هو مشروع وطيب..
 
ضوابط وشروط
وليكون الترويح عن النفس مقبولا ومشروعا ولا يجر إلى معصية أو رذيلة، وجب التقيد بمجموعة من الشروط والضوابط هي ذاتها التي تقيد كل عمل بشري وإنساني حتى لا يقع المسلم في المحظور ويبطل عمله ولو كان من المباحات والمستحبات.
 
ولعل أول هذه الضوابط وأكثرها أهمية على الإطلاق أن لا يكون في النشاط الترويحي مخالفة شرعية من قبيل الاعتداء على الغير سواء باللمز أو الهمز، تصريحا أو تلميحا، لأن حرية الإنسان تنتهي حيث تبدأ حرية الآخر، ومن قبيل الاستهزاء بالغير سواء بواسطة القول أو الفعل عن طريق النعت أو الوصف أو الكلام البذيء أو النكتة السمجة، وهذا بعيد عن روح الترويح عن النفس الذي يحبذه
الشارع.. وقد نهى الله تعالى عن السخرية من الناس من أجل جلب ضحكة أو ابتسامة أو إثارة جو من الفكاهة للترفيه عن القلب. قال عز وجل في سورة الحجرات: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ..).
 
يقول في الظلال حول تفسير هذه الآية الكريمة: " إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدْي القرآن، مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس، وهي من كرامة المجموع ، ولمز أي فرد هو لمز للنفس ذاتها ، لأن الجماعة كلها وحدة، كرامتها واحدة ، والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب : "يا أيها الذين آمنوا " وينهاهم أن يسخر قوم من قوم أي رجال من رجال، فلعلهم خير منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله..وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير، والرجل القوي من الرجل الضعيف، وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخامل، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم، وذو العصبية من اليتيم، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، والغنية من الفقيرة، ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس ، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين ..".
 
ومن ضوابط الترويح عن النفس أيضا أن يكون بعيدا عن الكذب والافتراء: "ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له" أو كما قال رسول الله صبى الله عليه وسلم.. ومن الضوابط أيضا أن لا يتخلل الترفيه عن النفس دعوة إلى الفجور ولا تبذير للأموال بدون طائل أو تضييع للصلوات والفرائض حتى لا يتعارض الأساسي مع الثانوي والأصل مع الفرع..
 
الترويح المذموم
ومقابل الترويح الذي أجازه الشرع وحث عليه وجعله وسطا بين الإفراط والتفريط، هناك ترويح عن النفس مذموم وممنوع لا يقبله الإسلام ويمجه كل عقل سليم ذو هوية دينية صافية، ومنه مسابقات الغناء الماجن واختلاط الشباب ذكورا وإناثا في برامج
 
 يسمونها "برامج تلفزيون الواقع"  حيث تختلط الأجساد في قلة حياء دون خجل ولا وجل بزعم أنهم يجرون مسابقة لاختيار أحسن الأصوات، فتنشا قصص حب وغرام بين الفتيات والفتيان ولعل بعضهم يتبادل القبل تحت عين الكاميرا، وكل هذا يدعون أنه من الترويح على المشاهد والمتفرج تحت يافطة "الجمهور عايز كده"، أو "الجمهور يريد مثل هذه البرامج"، ونفس الشيء بالنسبة للأفلام والمسلسلات التي يقبل عليها الكثيرون سيما النساء قصد الترويح عن أنفسهن من عناء عمل البيت وهموم الأولاد، غير منتبهين إلى ما تتضمنه تلك الأفلام من رسائل هدامة أخلاقيا ولقطات فاحشة تدعو إلى الانحلال والميوعة..
 
ومن أصناف الترويح المذموم ما يقام في بعض البلاد الإسلامية من مهرجانات غنائية وموسيقية يدعى إليها مغنون عرب وأجانب يركضون فوق المنصة يشاهدهم آلاف الشباب متسمرين أمامهم ساعات طوال دون اكتراث لأية سلوكيات حميدة، فيخالط الغناء بالرقص، والحشيش بالخمر، وتلهو الأجساد وتتخدر العقول، وإن سألتهم لأجابوك: "إنه الترويح عن النفس".
وفي المغرب نموذج ، يقبل ملايين الناس على مهرجانات غنائية من هذا الطراز، لعل أشهرها مهرجان "موازين" الغنائي الدولي الذي يقام كل سنة في شهر مايو. وما حدث في شهر مايو المنصرم من وفاة لأكثر من 11 متفرجا وجرح العشرات في حفل خلال آخر يوم من المهرجان بمدينة الرباط  لدليل على مدى فداحة مثل هذا المهرجان الذي يتم تنظيمه في وقت يهيئ فيه الطلبة والتلاميذ لامتحاناتهم.. وشاء الله تعالى أن يتوفى هؤلاء الناس في حفلة لمغني شعبي حضرها زهاء 70 ألف من الجمهور، وهو العدد الذي يحلم بنصفه فقط  كل أئمة المساجد التي هجرها الناس أيما هجران في المغرب.
 
وأعربت عدة فعاليات إسلامية بالمغرب عن امتعاضها من ما يحدث خلال بعض المهرجانات في إطار "الترويح عن المغاربة" من ميوعة وعربدة وسكر علني وتعاطي المخدرات وتحرش بالنساء و أحداث عنف أحيانا .. وأكدت في هذا السياق إحدى أكبر الحركات الإسلامية المعتدلة بالمغرب (حركة التوحيد والإصلاح) بأن  "هذا النمط من المهرجانات والأنشطة أصبح لدى البعض، على ما يبدو، سياسة مقصودة تعمل على نشر الميوعة والانحلال بدعوى تشجيع المواهب الفنية ومواجهة الغلو والتطرف"، معتبرة أن " التطرف الديني لا يمكن مواجهته بالتطرف في الانحلال والإفساد بل إن ذلك قد يغذيه ويعززه، والسلامة في التزام الوسطية والاعتدال دون إفراط ولا تفريط".