النسبية الثقافية

 تشكِّلُ نظرية (النسبيَّة) لأنشتاين تجاوزًا حاسمًا لفيزياء (نيوتن)، لكن اللافت للنَّظر أنها أحدثت تغييرًا هائلًا في غير مجالها الأصلي (الفيزياء الرياضية)، وكان ذلك التغيير عبارة عن توسيع لدائرة الوعي في رؤيته للحياة والأحياء والقيم والسلوكيات، وكان من الطبيعي أن يكون في ذلك ما يساعد العقلَ على التقدم، وما يُرْبِكُه، أو يهدم بعض مسلَّمَاتِه. وأودُّ قبل أن أستعرض بعض الآثار الإيجابية والسلبية للنسبية الثقافية أن أوضِّحَ ثلاثةَ أمور أساسية، هي:

 

 

1) يعني مصطلح (النسبية الثقافية) عدمَ وجود قِيَمٍ شاملة لجميع البشر، حيث إنَّ كلَّ ثقافة تُعَبِّرُ تعبيرًا متميزًا عن الشعوب والأمم التي تؤمن بها، وتبرمج سلوكَها وفق معاييرها ومعطياتها، وإنَّ التمادي في هذا الاتجاه قد أفضى ببعض غلاة (النسبية الثقافية) إلى القول: إنَّ كلَّ فرد له خبراته الشخصية المتميزة التي اكتسبها من تَنْشِئَتِهِ الاجتماعية ومن معاناته لشؤون الحياة، وإنَّ من حقه أن يرى الأشياء ويحكم عليها من أُفُقِ تلك الخبرة. وهذا يعني عدوانًا سافرًا على كل الثوابت وكل ما يَدخُل في دائرة المطلَق، مع أنَّ كلمة (نسبي) تدل على نسبة شيء إلى شيء، ولا معنى لنسبة شيء غير ثابت لشيء غير ثابت..

2) استغلَّ تيار (ما بعد الحداثة) نظرية أنشتاين استغلالًا سَيِّئًا، حيث صار من المسلَّمات لدى أصحاب ذلك التيار عدمُ وجود أي مرجعية لأي شيء، حتى إن العمل الأساسي للعقل لم يعد ـ كما كان الأمر في السابق ـ يتركَّز في صناعة المفاهيم وإنتاج النظريات، وإنما صار محصورًا في هدم الأفكار ونقد المعطيات المتوفِّرة، وبما أنَّ لكل إنسان عقلَه وعقليته ورؤيته، فإن المتوقع حينئذ هو الشك والفوضى والعَدَمِيَّة، وهذا يطال كلَّ شيء، حتى  مذهبَ ما بعد  الحداثة نفسِه؛ حيث إن ما يقوله أصحابه هو عبارة عن شيء نسبي وخاص بسبب عدم وجود مُرْتَكَزَاتٍ وثوابتَ يقوم عليها. وأودُّ أن أشير هنا إلى أنَّ النسبية الثقافية ومقومات مذهب (ما بعد الحداثة) اخترقت الثقافات الغربية اختراقًا عميقًا، كما فعلت نظرية النشوء والارتقاء لـ (دارون)، وعواقب ذلك إذا استمر الوضع على ما هو عليه يمكن أن تكون كارثيَّة على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي.

3) تم توظيف (النسبية الثقافية) في التَّهَرُّب من الحقوق، وفي تكريس الظلم والاستبداد والعدوان على الأنفس، وقد صار في الشرق والغرب من يسوِّغ التعذيب في السجون بحجة أن البلد يمر بظروف خاصة، وصار هناك من يرفض إعطاء العمال والفئات المهمَّشة حقوقَهم الشرعية والقانونية بحجة كون تكاليف ذلك باهظة لا تتحملها ميزانية دولة فقيرة... إنه لشيء مخيف حقًا، ومُنْذِرٌ بالانحطاط أن نُوجِد لأنفسنا عددًا كبيرًا من الاستثناءات الأخلاقية والقانونية لتجدنا في نهاية المطاف وكأننا لا نؤمن بأي شيء، ولا نحترم ولا نراعي أي شيء. وإن من واجب المفكرين والمثقفين والإعلاميين الوقوفَ بحزم أمام منْح الخصوصيات لمن يجعل منها أداةً لانتهاك الحقوق والحُرُمَات وقتل الأنفس وتدمير معاني العدل والمساواة.

الآثار الإيجابية للنسبية الثقافية:

نحن نعتقد أن الخير الخالص نادر جدًّا، كما أنَّ الشر المحض نادر جدًّا ومن هنا فإني سأعرض في هذا المقال وما بعده لما أعتقد أنه حسنات وإيجابيات للنسبية الثقافية، كما سأعرض لبعض السلبيات المترتبة عليها. ولعل من الإيجابيات الآتي:

نحن نعرف أننا كلما اتجهنا صَوْبَ الأصول والكليات والظواهر الكبرى وجدنا أنفسنا في حيز المطلَق، وكلما اتجهنا صوب الفرعي والجزئي وما هو من قبيل التفاصيل وجدنا أنفسنا في حيز النسبي، وعلى سبيل المثال: (الصدق) فهو قيمة عالمية وفضيلة من أعظم الفضائل، وقد لقيت على مستوى التنظير إجماعًا واسعًا، لكن حين نأتي إلى التفاصيل، فسنجد أن المرء قد يكذب وهو لا يشعرُ بأي حرج، بل قد يكذب، وهو يشعر أنه يمارس عملًا يُشكَر عليه، كما لو أنَّ مجرمًا ظالمًا يتتبع بريئًا وسألك عن الطريق الذي سلكه، فإنك في هذا الموقف ترى أنَّ الكذب قد يُنقذ نفسًا، ويحول دون ارتكاب جريمة، وإذا قلت الصدق، وحصل المحذور فإنك ربما لقِيتَ اللوم من نفسك مدى الحياة... لكن من الثابت أنَّ الأميين والمُبْتَلِين بضَحَالَةِ المعرفة وسكَّانَ المناطق المتخلفة.. يتخذون من سلوكهم وأوضاعهم نموذجًا وحيدًا للعيش، وينظرون إلى معتقداتهم وآرائهم على أنها التراث الذي ينبغي أن توزن به كلُّ الأشياء، حتى في الأمور الذَّوْقِيَّة والجمالية، فإنهم لا يعترفون بالنسبية ولا بالخصوصيات الثقافية، فتراهم يتضايقون ممن يخالفهم في ذلك، وهنا يأتي دور النسبية الثقافية بوصفها المِعْوَلَ الذي يهدم في جدار الانغلاق والتقوقع وأحادية الرؤية، ونحن نشعر الآن أن قبول (التعددية) في كثير من الأمور صار أكبرَ، كما نرى كيف أنَّ الناس صاروا يَتَعَاذَرُون فيما بينهم بطريقة أفضلَ مما كان عليه الوضعُ في الماضي، ومن الطبيعيِّ أنْ نجدَ بعضَ الشَّطَطِ في الإِعْذَارِ، كما رأينا شَطَطًا في اعتقاد الخصوصية ..

(( المصدر: الإسلام اليوم ))