حتى لا تنتخب رغما عن أنفك

ارتفعت الأصوات مطالبة بضرورة خروج الإسلاميين (إذا صح التعبير) من لعبة الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات والمجالس النيابية وتكريس الجهد بدلا من ذلك في الدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للمسلمين بعد أن ضعف هذا الجهد لصالح المشاركة في اللعبة الديمقراطية.
ولكن بقدر ارتفاع الأصوات المطالبة بضرورة خروج الإسلاميين بقدر ما تنهال الشبه للنيل من هذا التوجه والطعن فيه.

 

ولعل من أبرز تلك الشبه هي قولهم : أن عدم المشاركة سبيل إلى تسلط المفسدين على حياة لناس وإمساكهم بعجلة القيادة ومن ثم نشر باطلهم وفسادهم،فأقول في الرد على هذه الشبهة :
1-    أن مسألة الديمقراطية والبرلمانات والانتخابات هي في حقيقتها نتاج للفكر الغربي العلماني ونظرته لتسيير حياة الناس، وهي في أصل وضعها وفكرتها تخالف تعاليم ديننا الإسلامي الذي يجعل الدين والدنيا كلها لله كما قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} سورة الأنعام، لذلك رفضتها كما رفضها البعض من المسلمين.

 

2-    الذي أجاز المشاركة في الانتخابات والدخول في البرلمانات من أهل العلم أجازها من باب دفع أعظم المفسدتين بتحمل أدناهما، وكانت أغلب الفتاوى خرجت قبل ربع قرن من الزمان (في العموم)، وأنا أرى أن الوضع قد تبدل الآن وظهر للعيان لكل صاحب نظر صحيح يرى بعين الأصول الشرعية أن مفسدة المشاركة في الانتخابات ودخول البرلمانات فاقت المصلحة المرجوة، ومن باب إحسان الظن بعلمائنا الذين أفتوا بجواز المشاركة لو أنهم عاشوا الواقع المرير الذي تعيشه الأمة اليوم وما آل إليه واقع الناس لأفتوا بتحريم المشاركة.

 

3-    أنا اعتقد استناداً لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} سورة الرعد، أنه لن يتغير واقع وحال الناس إلا بعد أن نغير ما بأنفسنا وهذا لن يكون إلا بسلوك سبيل النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والإصلاح، ولن يصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، وأن أي سبيل غير سبيل النبي صلى الله عليه وسلم هو في حقيقته شر وان ظهر للبعض أن فيه خير، فما فيه من خير مغمور بما فيه من شر وهذا ما بينه الله سبحانه في آية الخمر حيث قال تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) سورة البقرة، فلا يغرنا ما في الديمقراطية أو ما في المشاركة في البرلمانات والانتخابات من خير يسير فهو مغمور بما فيه من شر كثير،و شريعة ربنا تكفل لنا تحقيق ما نأمله من خير، فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم فيه الخير والصلاح وان كان طويلا وشاقاً فهذا حال الإيمان والعمل الصالح فالجنة حفت بالمكارة والنار حفت بالشهوات، ولا يغرنا بعد ذلك زخرف القول، فالخير كل الخير في إتباع من سلف والشر كل الشر في ابتداع من خلف.

 

4-    بالنظر إلى تاريخ الأمة من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا لم تتغير حياة الناس إلى ما يحبه الله ويرضاه إلا بعد ثبات العلماء والمصلحين على دينهم وعدم تنازلهم عن مبادئهم وثوابتهم، واستمرارهم بدعوة الناس إلى الله والنصح لهم، فهذه حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في مكة فبعد الثبات العظيم والتمسك بهذا الدين جاء النصر المبين فلم يداهنوا القوم ولم يتنازلوا عن دينهم ولم يشاركوهم بما هم فيه مما ليس من دينهم حتى جاء وعد الله بالنصر المبين، وهذا ثبات أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته في قتاله للمرتدين ومانعي الزكاة حتى ثبت الله به قواعد هذا الدين إلى يوم القيامة، وهذا ثبات الإمام أحمد على عقيدته في مسألة خلق القرآن حتى حفظ الله به عقيدة الأمة وسمي إماماً لأهل السنة والجماعة، وهذا ثبات شيخ الإسلام ابن تيمية على فتاويه التي كان يرى فيها إنها موافقة لفهم سلفنا الصالح، فكان لها القبول والانتشار بفضل الله، وهذا ثبات الشيخ محمد بن عبد الوهاب على عقيدته ودينه وتنقله بين قرى نجد يبحث عن من يؤازره في تبليغ رسالة التوحيد حتى نصره الله بالإمام محمد بن سعود ودخل الناس في دين الله أفواجا، وغيرهم كثير من سلفنا الصالح الذي يشهد التاريخ والواقع أنه لولا الله ثم ثباتهم على دينهم لما حصل القبول والانتشار واصلاح الحال.

 

5-    لدينا تجربة فريدة في ثبات الأمة على دينها، كلنا عشناها في وقتنا المعاصر وهي تجربة المصارف الإسلامية، فبعد ثبات علماء الأمة على فتواهم بتحريم الربا وعدم جواز التعامل مع المؤسسات التي تتعامل بالفائدة الربوية وثبات عوام المسلمين على فتوى علمائهم منَ الله على الأمة بتغير الحال بإنشاء المصارف الإسلامية وشق طريقها في عالم الاقتصاد، فثبات كل علماء المسلمين تقريباً على تحريم الفوائد المصرفية وأنها عين الربا لم يترك مجالاً للمداهنين ولا لغيرهم في تسويق الربا في واقع المسلمين حتى منَ الله على الأمة بهذا النصر بظهور المصارف الإسلامية، ولو كان للأمة مثل هذا الثبات في مسألة الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات النيابية لما كان هذا الانتشار الواسع للبرلمانات والمجالس النيابية في حياة المسلمين حتى عمت الفتنة فهرم فيها الكبير ونشأ فيها الصغير وظن كثير من المسلمين أن واقع الديمقراطية والمشاركة النيابية واقع وظاهرة صحية لا تحتاج إلى تغيير وإنها لا تخالف دين المسلمين وهذا شرخ كبير في عقيدة الإسلام والمسلمين.

 

6-     أنا لا أرفض الذهاب إلى صناديق الاقتراع وبالمقابل أدعو إلى الخلود إلى الارض أو الى النوم بل أدعو إلى التحرك كما تحرك النبي صلى الله عليه وسلم والمصلحون من هذه الأمة في دعوة الناس إلى الخير والى الرجوع إلى دينهم وتحكيمه في معاشهم والانتشار بين الناس لنصحهم وتعليمهم شريعة ربهم التي بها سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، فليس الأمر ينحصر بين إما ترك الساحة للمفسدين أو المشاركة بالانتخابات بل هناك أمر آخر شرعي شرعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده وهو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الله تعالى في سورة آل عمران : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وتعود دعوتنا كما كانت في سابق عهدها وأفضل، ولو نبذل في دعوتنا من الجهد عشر ما نبذله في الانتخابات لكان خير كثير باذن الله تعالى. فلننتبه جيدا لما يثار من شبهات حول هذه المسألة، فهذه الأوهام وهي قولهم أن عدم المشاركة سبيل الى تسلط المفسدين على حياة الناس لا تنطلي على مسلم يقرأ كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن المستقبل لهذا الدين وأن الخير في هذه الأمة باق الى يوم القيامة كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ » رواه الترمذي وحسنه الألباني، وأنه إذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا كما قال الله تعالى في سورة الإسراء، فلا ندع هذه الأوهام تنتشر بين عوام المسلمين من حيث لا نشعر بل علينا أن نربطهم بالحقائق التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونربطهم دائما بعقيدة المسلمين بأن النصر لهذا الدين.

 

وأخيرا لعل وقوفنا جميعا في رفض الانتخابات ورفض المشاركة بالمجالس النيابية لعله يكون الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح نحو الإصلاح، وحجر الأساس في بناء حياة الناس على وفق تعاليم الشريعة الإسلامية التي ننادي جميعا بتطبيقها في حياة الناس.
والله من وراء القصد..