تجربة ونصيحة لابن الجوزي

كنتُ في بداية الصَّبوة قد أُلهِمتُ سلوكَ طريقِ الزُّهاد، بإدامة الصوم والصلاة،وحبِّبَتْ إليّ الخلوة، فكنتُ أجدُ قلباً طيباً، وكانت عينُ بصيرتي قويةَ الحِدَّة،تتأسف على لحظةٍ تمضي في غير طاعة، وتبادرُ الوقتَ في اغتنام الطاعات، ولي نوعُ أُنْسٍ، وحلاوةُ مناجاةٍ.
فانتهى الأمرُ إلى أنْ صار بعضُ ولاةِ الأموريستحسنُ كلامي، فأمالَني إليه، فمالَ الطبعُ، وفُقدت تلك الحلاوة.

 

ثم استمالني آخرُ، فكنت أتّقي مخالطتَه ومطامِعَه لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة.
ثم جاءَ التأويلُ، فانبسطتُ فيما يُباح، فانعدَمَ ما كنتُ أَجِدُ مناستنارة وسكينة، وصارت المخالطةُ توجبُ ظُلمةً في القلب، إلى أن عُدمَ النورُ كلُّه، فكان حَنيني إلى ما ضاع مني يُوجبُ أهلَ المجلس، فيتوبون ويصلحون، وأَخرجُ مُفلِساً فيما بيني وبين حالي.

 

وكَثُرَ ضجيجي من مرضي، وعجزتُ عن طب نفسي، فلجأت إلى ربي ، وتوسلت في صَلاحي، فاجتذبني لُطفُ مولاي بي إلى الخلوةِ على كراهةٍ مني، وردَّ قلبي بَعدَ نُفورٍ عني، وأَراني عيبَ ما كنتُ أُوثره. فأفقتُ من مرض غفلتي، وقلتُ في مناجاة خَلوتي : سيدي، كيف أَقدِرُ على شكرك؟!  وبأي لسانٍ أنطِقُ بمدحك ؟! إذ لم تؤاخذْني على غفلتي، ونبَّهتَني من رّقْدَتي، وأَصلحتَ حالي على كرهٍ من طبعي. فما أربَحَني فيما سُلِبَ مني إذ كانت ثمرته اللجأ إليك ! وما أوفَرَ جمْعي إذ ثمرتُه إقبالي على الخلوة بك ! وما أغناني إذ أفقرتَني إليك ، وما آنَسَني إذ أوحشتَني من خلقك ! آه على زمانٍ ضاع في غير خدمة ،أَسَفاً لوقتٍ مضى في غير طاعتك.

 

قد كنتُ إذا انتبهتُ وقتَ الفجر لايؤلمني نومي طول الليل، وإذا انسلخَ عني النهارُ لا يوجعُني ضياعُ ذلك اليوم. وماعلِمتُ أن عدم الإحساسِ لقوةِ المرض. فالآنَ قد هبَّتْ نسائمُ العافية، فأحتسب الألم، فاستدللت على الصحة. فيا عظيمَ الإنعامِ تَمِّمْ لي العافية.

 

آه من سكِّيرٍ لم يعلمْ قَدرَ عَرْبَدَتِه إلا في وقت الإفاقة؟ لقد فتَقْتُ ما يَصعُبُ رَتْقُه، فواأسفاً على بِضاعةٍ ضاعَت، وعلى ملاَّحٍ تعِبَ في موجَ الشمال مُصاعداً مدةً، ثم غلَبَه النومُ إلى مكانه الأول.

 

يا من يقرأ تحذيري من التخليط ، فإني – وإن كنت خُنتُ نفسي بالفعل - نصيحٌ لإخواني بالقول،  احذروا إخواني من الترخُّص فيما لا يُؤمنُ فَسادُه، فإن الشيطانَ يزين المُباحَ  في أول مرتبة. ثم يَجُرُّ إلى الجُناح. فتلمَّحوا المآل، وافهموا الحال. وربما أَراكم الغايةَ الصالحةَ، وكان في الطريق إليها نوعُ مخافةٍ، فيكفي الاعتبار في تلك الحال بأبيكم : (( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْأَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ))

 

إنما تأمَّلَ آدمُ الغايةَ، وهي الخُلد، ولكن غَلِطَ في الطريق، وهذا أعجبُ مصائدِ إبليسَ التي يصيد بها العلماء. يتأوّلونَ لعواقبِ المَصالحِ،فيستعجلون ضررَ المفاسِدِ.
مثاله أن يقول للعالم: ادخُلْ على هذا الظالم فاشفَعْ في المظلوم، فيستعجِلُ الداخِلُ رؤيةَ المُنكرات، ويتزلزَلُ دِينُه. وربما وقَعَ في شَرَكٍ صار به أَظْلَمَ من ذلك الظالم.

 

فمَن لم يثِقْْ بدينه فليَحذَرْ من المصائد، فإنها خفية. وأَسْلَمُ ما لِلجَبانِ العُزلَةُ، خصوصاً في زمانٍ قد ماتَ فيه المعروفُ، وعاشَ المُنكَرُ، ولم يَبْقَ لأَهلِ العِلمِ وَقْعٌ عند الوُلاة. فمَن داخَلَهم دَخَل معهم فيما لا يَجوز، ولم يَقدِرْ على جَذْبِهم مما هم فيه.

 

ثم مَن تأمَّل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولاياتِيَراهم مُنسلخين من نَفْع العلم، قد صاروا كالشرطة.

 

فليس إلا العزلة عن الخَلق، والإعراض عن كلِّ تأويلٍ فاسدٍ في المخالطة. ولأنْ أنفَعَ نفسي وحدي خيرٌلي من أنفَعَ غيري وأتضرر.
فالحذرَ الحذرَ من خوادع التأويلات، والصبرَالصبرَ على ما تُوجبُه العزلةُ، فإنه إن انفردتَ بمولاكَ فَتَحَ لك باب معرفته، فهانَ كلُّ صَعبٍ، وطابَ كلُّ مُرٍّ، وتيسَّر  كلُّ عُسْرٍ، وحصلتَ كلَّ مطلوبٍ.
والله الموفِّق بفضله، ولا حول ولا قوة إلا به.
                                         ( من كلمات ابن الجوزي رحمه الله في كتابه "صيد الخاطر " )