حتى لا يلدغوك

لم يعد غريباً أن تسمع أو تقرأ لأحد الباحثين أو ربما – الدعاة- مدحاً وثناء عطراً لبعض من عُرف واشتهر بأفكاره وأفعاله الإفسادية في المجتمع ، وممن يُعد من أساطين الفكر الليبرالي العلماني .

وللوهلة الأولى تـتوقع أن سببَ ذلك المدح والثناء انقلابٌ وانتكاسٌ في حال أولئك ، فلا تملك إلا أن تردد وتبتهل : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . لكن عندما تـتأمل ما قالوا وما كتبوا تجده لا يعدو كونه غفلة وقلة علم بحال أولئك المفسدين وصفاتهم ، وبالمنهج الرباني في التعامل مع خداعهم وتلبيسهم .

وقد قال سفيان الثوري رحمه الله : "من العجب أن يُظن بأهل الشر الخير" .

وقال التابعي خيثمة بن عبدالرحمن رحمه الله : "والله ما أحب مؤمنٌ منافقاً قط" .

وفي هذا المقال عرضٌ موجز لعدد من الحقائق والمفاهيم عن المنافقين وبعض أساليبهم وطرقهم في خداع المؤمنين ، والحال التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها عند التعامل معهم .

 

 
أولاً : صفات المنافقين عند تعاملهم مع المسلمين :

من كثرة ما يسمع الأخيار ويرونه مما يفعله المنافقون من الإفساد في الأرض ، يظن بعضهم أن المنافق سيء الخلق ، بذيء اللسان ، غليظ في التعامل .. فإذا لقي أحدهم ورأى حفاوته البالغة وجمال عبارته ودماثة خلقه ولطفه أربكه هذا التعامل وفاجأته تلك الحفاوة ، وقد يصل به ذلك إلى أن تهتز لديه الكثير من القناعات والحقائق عن ذلك المنافق وأفعاله .. فيصبح يُـثـني عليه في المجالس ووسائل الإعلام ، بل ويتهم من يظنون بذلك المنافق ظن السوء بـ (المتحمسين) و (قليلي العلم) وغير ذلك من الأوصاف الجائرة ، والله المستعان على ما يصفون .

 

ولو علم وفقه أولئك بعضَ صفات المنافقين التي وصفهم الله تعالى بها حال تعاملهم مع المؤمنين لم يفجأهم حسن كلامهم وجميل حديثهم وعظيم حفاوتهم . فقد وصفهم عالم السر والنجوى سبحانه فقال : (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) آل عمران: 119 . قال ابن كثير رحمه الله :  "وهذا شأن المنافقين يُظْهِرون للمؤمنين الإيمانَ والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه. وقال صاحب الظلال : يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة ، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال"

 

 

وقال عالم السر وأخفى سبحانه في وصفهم: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) المنافقون : 4 . قال البغوي :  "فتحسب أنه صدق ، قال عبد الله بن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ جسيمًا فصيحًا ذلق  اللسان" .

 

قال ابن كثير : "أي: كانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم" .

 وقال جل وعلا عنهم : (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) البقرة:9. قال ابن كثير : "وَقَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : نَعْتُ الْمُنَافِق عِنْد كَثِير : خَنِع الْأَخْلَاق يُصَدِّق بِلِسَانِهِ وَيُنْكِر بِقَلْبِهِ وَيُخَالِف بِعَمَلِهِ يُصْبِح عَلَى حَال وَيُمْسِي عَلَى غَيْره وَيُمْسِي عَلَى حَال وَيُصْبِح عَلَى غَيْره وَيَتَكَفَّأ تَكَفُّأ السَّفِينَة كُلَّمَا هَبَّتْ رِيح هَبَّت مَعَهَا" .

 

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المنافق بصفات منها (.. وإذا حدَّث كذب ) ، فأحاديثه وأقواله ومدحه للصالحين عندما يلقاهم كذبٌ لا يُعبِّر عما في داخل قلبه من البغض والكراهية لهم وللدين الذي يدينون به ، كما قال تعالى : (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)آل عمران : 167.
     يعطيك من طرف اللسان حلاوة            ويروغ منك كما يروغ الثعلب

قال ابن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين : "ومن صفاتهم (أي المنافقين) أنهم أعذب الناس ألسنة ، وأمرّهم قلوباً ، وأعظم الناس خلفاً بين أعمالهم وأقوالهم ... وأن أعمالهم تُكذِّب أقوالهم، وباطنهم يُكذب ظاهرهم ، وسرائرهم تـناقض علانيتهم" .

 

 
ثانياً : حال المنافقين مع العبادات :
 
كما أن فريقاً من الصالحين ينخدع بالكلام المعسول والبشاشة المصطنعة من المنافقين ، فإن فريقاً آخر ينخدع بما يرى من حال بعض المنافقين في أدائهم لشيء من الطاعات .. فهم يتعجبون إذا رأوهم بالمال يتصدقون ، وفي المساجد يصلون ، ولله عز وجل يذكرون .

فإن تحدثت يوماً ما في مجلس عن أحد المنافقين ، وعن خطر ما يفعله من إفساد وتضليل انبرى لك أحد الصالحين البسطاء المخدوعين فقال : لا تقل فيه إلا خيراً .. فلقد رأيته في المسجد يصلي وللمال ينفق وسمعته باسم الله يلهج .

 

ولو كان هناك شيء من التدبر لكتاب الله تعالى لزال اللبس وانقشعت الغشاوة عن أعين أولئك المخدوعين عندما يرون أحداً من المنافقين يؤدي طاعة من الطاعات .

 

 

لقد وصف الله عز وجل المنافقين بأنهم يصلون مع المسلمين في المساجد لكنهم لا يأتون إلى الصلاة إلا بتـثاقل وكسل ، ولا يدفعهم إليها إلا مراءاة الناس ومصانعتهم ، ورغبة في مدحهم وخوفاً من فضحهم . قال الله تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) النساء : 142قال الطبري : "يَعْنِي : أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَال الَّتِي فَرَضَهَا اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْه التَّقَرُّب بِهَا إِلَى اللَّه ، لِأَنَّهُمْ غَيْر مُوقِنِينَ بِمَعَادٍ وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنْ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة بَقَاء عَلَى أَنْفُسهمْ وَحِذَارًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَسْلُبُوا أَمْوَالهمْ ، فَهُمْ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة الَّتِي هِيَ مِنْ الْفَرَائِض الظَّاهِرَة ، قَامُوا كُسَالَى إِلَيْهَا ، رِيَاء لِلْمُؤْمِنِينَ ، لِيَحْسَبُوهُمْ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ؛لِأَنَّهُمْ غَيْر مُعْتَقِدِي فَرْضهَا وَوُجُوبهَا عَلَيْهِمْ ، فَهُمْ فِي قِيَامهمْ إِلَيْهَا كُسَالَى. عَنْ قَتَادَة ، قَوْله : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى } قَالَ : وَاَللَّه لَوْلَا النَّاس مَا صَلَّى الْمُنَافِق ، وَلَا يُصَلِّي إِلَّا رِيَاء وَسُمْعَة ".

 

 ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) رواه ابن ماجه . وقد فقه الصحابة هذا المعنى ولم ينخدعوا كما ينخدع بعض الصالحين الآن .. فكان ابن عمر رضي الله عنهم يقول : "إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن" .

 

أما حال المنافقين مع الصدقة فهم يتصدقون ولكن بشح وكره للإنفاق ، كما قال الله تعالى عنهم (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) التوبة : 54 أي "من غير انشراح الصدر وثبات النفس" ، كما قال ذلك السعدي رحمه الله .

 

قال صاحب الظلال : "إنما ينفقون عن رياء وخوف ، لا عن إيمان وثقة ، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين ، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم ، فهو في الحالتين مردود ، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند اللّه... إنها صورة المنافقين في كل آن. خوفٌ ومداراة ، وقلبٌ منحرف وضميرٌ مدخول . ومظاهر خالية من الروح ، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير" .
 
أما ذكر المنافق لله تعالى فهو يذكره لكن ذكرٌ لا يرجو فيه ثواباً من الله إنما رياء وسمعة كما قال تعالى عنهم : ( ولا يذكرون الله إلا قليلاً) النساء : 142 قال القرطبي : "مَعْنَاهُ : وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّه إِلَّا ذِكْرًا رِيَاء ، لِيَدْفَعُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسهمْ الْقَتْل وَالسِّبَاء وَسَلْب الْأَمْوَال ، لَا ذِكْر مُوقِن مُصَدِّق بِتَوْحِيدِ اللَّه مُخْلِص لَهُ الرُّبُوبِيَّة ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّه قَلِيلًا ، لِأَنَّهُ غَيْر مَقْصُود بِهِ اللَّه وَلَا مُبْتَغًى بِهِ التَّقَرُّب إِلَى اللَّه ، وَلَا مُرَادًا بِهِ ثَوَاب اللَّه" .
 
ونقل البغوي عن ابن عباس قوله : "إنما قال ذلك لأنهم يفعلونها رياء وسمعة ، ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله تعالى لكان كثيراً" .

سُئل شميط بن عجلان رحمه الله : هل يبكي المنافق ؟ فقال : يبكي من رأسه ، أما من قلبه فلا.

 

 ثالثاً : الحكم على الأشخاص ليس على مجرد أقوالهم بل على مواقفهم وأفعالهم :
فلا نغتر بكلام معسول إذا كانت الأفعال مخالفة له ..
وقد حكى الله تعالى حال المنافقين وأنهم يقولون خلاف ما يعتقدون فقال سبحانه : (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم )  آل عمران : 167 . قال ابن كثير : "يعني: أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته . وقال السعدي : وهذه خاصة المنافقين، يظهرون بكلامهم وفعالهم ما يبطنون ضده في قلوبهم وسرائرهم".

رضي الله عن الصحابة أجمعين الذين لم يكن يستغفلهم أحد من المنافقين بزخرف من القول مهما كان ذلك القول صواباً ، وحتى لو قيل بحضرة نبيهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم .

 

كان عبد الله بن أُبيّ بن سلول إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس ... لكن بعد أن خذل المسلمين في غزوة أحد ورجع بثلاثمائة من المقاتلين أراد أن يفعل ذلك، فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له:"اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت" .

 

ولأحد كبار التابعين وهو الحسن البصري رحمه الله قولاً نفيساً يُحذِّر فيه من الانخداع بالأقوال ويدعو إلى النظر في الأفعال ، فيقول : "اعتبروا الناسَ بأعمالهم ، ودعوا أقوالهم ؛فإن الله لم يدع قولاً إلا جعل عليه دليلاً من عمل يُصدِّقه أو يُكذِّبه ، فإذا سمعت قولاً حسناً فرويداً بصاحبه ؛ فإن وافق قوله عمله ، فنعم ونعمة عين ، فآخه، أحببه، وأودده، وإن خالف قولاً وعملاً فماذا يشبه عليك منه ؟ أو ماذا يخفى عليك منه ؟ إياك وإياه، لا يخدعنك".

 

 وبين ابن القيم خطر المنافقين واشتباه أمرهم على كثير من المسلمين ، وأن أهل العلم والبصيرة لا يلتبس عليهم أمرهم ، فقال رحمه الله : ".. وجملة أمرهم : أنهم في المسلمين كالزغل في النقود ، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد ، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس ، وقليل ما هم" .

كان صياد يصطاد العصافير فييوم ريح، فجعلت الرياح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان، وكلما صاد عصفوراً كسر جناحهوألقاه في شباكه ، فقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا!، ألا ترى إلى دموع عينيه؟فقال له الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى عمل يديه .

 
إذا رأيت نيوب الليث بارزة             فلا تظنن أن الليث يبتسم
فحكمنا على الأشخاص بناء على مواقفهم ، وحكمنا على مواقفهم بناء على الشرع المطهر،وما لأحد بعده قول .

 

رابعاً : الحكم على الأشخاص ليس وفق مصالحنا الشخصية المتحققة منهم إنما وفق الشرع :

إن المرء ليعجب عندما يسمع أحد الأخيار يمتدح ويزكي أحد كبار المفسدين لا لشيء إلا أنه قد شفع له في أمر أو توسط لأحد أبنائه في شيء من أمور الدنيا وتحقق على يديه مصلحة كانت يرجوها .
 
وليس المقصود ههنا أن نـنكر ونجحد إحسان من أحسن إلينا من المنافقين ، إنما المقصود أن نضع إحسانه ومعروفه في حدوده الشرعية ، فيُمدح على تلك الشفاعة وذلك الجميل ولا نـتجاوز ذلك إلى تزكية الرجل وتبرئته من كل ما عُرف عنه من إفساد . وتأمل كيف أقام الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الميزان العادل الدقيق عندما جاءه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأخبره أن الشيطان أتاه وعلمه فضل آية الكرسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (صدقك وهو كذوب) رواه البخاري ، فأقر عليه السلام صدقَ الشيطان فيما أخبر به فقط ، وأثبت صفة الشيطان الدائمة فيه وهي الكذب وعدم النصح للمسلمين .
 
كان أحد أئمة المساجد في إحدى الدول العربية يُثـني على المسؤول عن المساجد عندهم رغم أن ذلك المسؤول حجر عثرة في طريق الأئمة ومانعاً لكثير من الخير في بيوت الله تعالى، فلما سُئل عن سبب ذلك الثـناء تبين أن ذلك المسؤول استـثـنى ذلك الإمام من كثير من العراقيل ومهد له كثيراً من الصعاب في مسجده رجاء الاستحواذ عليه وتوجيه نشاطه ، وقد نجح في ذلك .
 
قارن – أخي الكريم – بين هذا الموقف وموقف ذي النورين عثمان رضي الله عنه عندما أرسله رسول الله صلى عليه وسلم إلى مكة قبيل صلح الحديبية ليبلغ قريشاً سبب قدومه - وقد كان صلى الله عليه وسلم محبوساً وأصحابه عن دخول مكه - فلما أبلغهم عثمان الخبر وأنهى مهمته قال كفار قريش لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . فقال : "ما كنت لأفعـل حتى يطوف به رسـول الله" . رواه أحمد .
 
فرضي الله عن عثمان لم يلتفت إلى المصلحة الشخصية الدينية التي ستـتحقق له إن طاف بالبيت العتيق بل نظر إلى مصلحة الأمة كلها وعلى رأسها نبيها صلى الله عليه وسلم .
 
خامساً : ينبغي أن يكون المؤمن فطناً نبيهاً :
فلا يخادعه منافق ذرب اللسان بحلو الكلام ، فإن خطره عظيم على الإسلام ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان) رواه أحمد .
 
وكان عمر رضي الله عنه يقول :"لست بالخب – أي المخادع - ولا يخدعني الخب" .
وهذا القول منه رضي الله عنه عمل به وأصبح مشهوراً به ، فقد ذُكر عمر عند المغيرة بن شعبة فقال عنه : "كان والله أفضل من أن يَخدع ، وأعقل من أن يُخدع" .
 
وقد كان الأحنف بن قيس متكلماً داهية فأراد عمر رضي الله عنه أن يوليه فأبقاه معه في المدينة سنة يراقبه – تأمل سنة كاملة يراقبه- ، ثم قال له: "يا أحنف، قد بلوتك وخبرتك فلم أرَ إلا خيرًا، ورأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، فإنَّا كنّا نتحدث:إنما يُهلك هذه الأمة كل منافق عليم" .
 
سادساً : المؤمن يستفيد من التجارب والأخطاء :
فلا يُخدع كما خُدع غيره ، أو يتكرر عليه خداع المنافقين له .  
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) متفق عليه . قال النووي:"ومعناه المؤمن الممدوح ، وهو الكيس الحازم الذي لا يُستغفل،فيُخدع مرة بعد أخرى ، ولا يَفطِن لذلك" .
 
ولهذا الحديث قصة يحسن ذكرها هنا ، وهي أن أبا عزة الجمحي كان شاعراً يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسر يوم بدر فعاهد رسولَ الله ألا يُحرِّض عليه ولا يهجوه ، فمنَّ عليه النبي وأطلقه فلحق بقومه ، ثم رجع إلى التحريض والهجاء ، ثم أسر يوم أحد ، فسأله أن يمن عليه وتوسل إليه وذكر فقره وعياله ، فقال له صلى الله عليه وسلم (لا تمسحعارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين) ثم أمر به فقتل .
 
إن المتابع ليجد أحداثاً وقصصاً يتكرر فيها مخادعة المنافقين للدعاة والصالحين ، وبخاصة في وسائل الإعلام المقروءة من صحف ومجلات .. فـتفاجأ أحياناً بصحيفة ما تقابل أحد الدعاة وتكتب بالخط العريض أقوالاً نشازاً له فـتستـنكر في قرارة نفسك أن تخرج مثل هذه الأقوال السيئة من ذلك الداعية ، ولكن عندما تقرأ تفاصيل المقابلة تجد أن الصحيفة حرّفت الكلم عن مواضعه وأضافت إليه وغيّرت ، أو أنها قد استدرجت ذلك الداعية إلى زاوية ضيقة ولبّسَت عليه فقال ما قال .
 
إن مجرد رغبة صحيفة سيئة السمعة إجراء مقابلة مع أحد الدعاة يثير الشك والريبة ، ولمّا سُئل ابن عباس عن عمر رضي الله تعالى عنهم قال : "كان كالطير الحذِر ، يرى أن له في كل موضع شَرَكاً" .
 
فمتى نـنتبه ونعي لخداع المنافقين ، ونتوقف عن إحسان الظن بهم . قال صاحب الظلال:"ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المُرَّة ، ولكننا لا نفيق . . ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر . ومرة بعد مرة تـنفلت ألسنتهم فـتـنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون ، ولا تغسلها سماحة يُعلِّمها لهم الدين . . ومع ذلك نعود،نفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق !"
 
سابعاً : عدم معرفة الشر ليس صفة مدح للصالحين :
يُؤتى ويُخدع بعض الصالحين بسبب عدم معرفتهم للشر وأهله ، وتراهم راضين بهذه الصفة ، ويرون أنها تدل على طيب النفس وسلامة الصدر . ولو رجع أولئك الصالحون لأقوال السلف وأحوالهم لعلموا أن الأمر خلاف ما يعتقدون . فسلامة الصدر وطيب النفس أمر محمود ، أما الغفلة والجهل بمكر الماكرين وشرهم ووسائلهم فهو مما يُذم ولا يُمدح.
 
قال ابن القيم رحمه الله : "والفرق بين سلامة القلب والبله والتغفل، أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته ، فيَسَلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به ، وهذا بخلاف البله والغفله فإنها جهل وقلة معرفة ، وهذا لا يُحمد بل هو نقص، وإنما يَحمد الناسُ من هو كذلك لسلامتهم منه".
 
ويـبـين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أهمية معرفة الخير والشر ، فيقول : "القلب السليم المحمود الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يُمدح به" .
 
ويؤكد ابن القيم ما قاله شيخه بتفصيل وتأصيل فيقول رحمه الله : "فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبـين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة ، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة ... إلى أن قال رحمه الله : والمقصود أن الله سبحانه يُحب أن تُعرفَ سبيل أعدائه لتجتـنب وتبغض ، كما يُحب أن تعرف سبيل أوليائه لتُحب وتُسلك‏.‏ وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله" .
 
وقد كان حذيفة رضي الله عنه يقول : "كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وأسأله عن الشر ، مخافة أن أقع فيه" .
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه         ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
قيل لعمر رضي الله عنه : أن فلاناً لا يعرف الشر ، فقال : "فذلك أحرى أن يقع فيه" .
 
استدراك:
لا يعني عرض ما سبق إساءة الظن بإخواننا المسلمين ، فإن الأصل في المسلم السلامة ، لكن المقصود التـنبيه على أن من أشتهر وعُرف بالأعمال الإفسادية والدعوة إلى الفكر الليبرالي العلماني فإن إساءة الظن به والحذر منه لازمة عند التعامل معه .