وقفات مع واقعة العزة
13 صفر 1430

بعد أن انقشع غبار المعركة في غزة، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]، يحسن بنا أن نقف وقفات لنستخلص من المعركة دروسها وعبرها، ولكون المجال لا يتسع للوقوف عليها جميعها، فنكتفي بالمرور على أهمها مروراً سريعاً.

 

الوقفة الأولى: قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، أي أن الله سينجز لك يا محمد وعده لك بالنصر على الكفار، فاصبر ، ولا يصرفنك أهل الباطل بباطلهم عما معك من الحق. وكم سمعنا من المرجفين والمخذلين أيام المعركة، ممن كانوا يحاولون ثني المؤمنين عن صبرهم وثباتهم، ويرعدون، ويزبدون، ويخَوِّفون، كما فعل أسلافهم يوم قالوا للمؤمنين: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، فرد الله كيد هؤلاء المرجفين في نحورهم، كما رد كيد يهود؛ إذ صبر المؤمنون فأنجز الله لهم وعده.

 

الوقفة الثانية: من أعظم نتائج هذه المعركة ما تحقق فيها من تمايز واضح بين الصفوف، وانكشاف مواقف المخذلين والمتخاذلين والمنافقين والمتآمرين الحامين لليهود، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 18، 19]، وقال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72، 73]، فظهر فريق الجهاد والمجاهدين ومن والاهم، وفريق المشككين، وهؤلاء بدورهم منهم منافقون عريقون في النفاق، ومنهم جهلة، ومنهم أهل أهواء، فكانت هذه المعركة اسماً على مسمىً كما أراد لها أهل الإيمان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

الوقفة الثالثة: للمرء أن يقارن بين هذا الصبر والثبات الذي أبداه أهل غزة المرابطون، طيلة ثلاثة أسابيع من القصف المركز من الجو والبحر والبر على هذه البقعة الصغيرة من الأرض، وبين انهيار ثلاثة جيوش عربية في حرب حزيران عام 67 خلال ساعات، واحتلال اليهود لأضعاف مساحة غزة؛ سيناء كلها، وقطاع غزة، والضفة الغربية، والجولان!
إن هذا الصبر والثبات لم يأت من فراغ، فأهل غزة هم أهل القرآن عُمَّار المساجد، ولئن كان قادة سلاح الطيران في الجيش المصري عشية حرب 67 يسهرون على صوت أم كلثوم، فقد كان المجاهدون في غزة يسهرون على كتاب الله يرتلون آياته ترتيلاً، ويتمثلون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، ويُصَبِّرون الناس ويحثونهم على الصمود ويذكرونهم بمعاني الإيمان، وكان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يدعون الله ويقنتون نصرة لهم، فصمدت غزة بإذن الله، بينما تحطمت المقاتلات عام 67 على أرض المطارات قبل أن تنطلق!

 

الوقفة الرابعة: لقد أكدت هذه المعركة على أن الحرب بيننا وبين يهود حرب عقيدة، فليست حرباً لتحرير الأرض فقط، ولا لعودة اللاجئين فقط، ولا لنيل الحقوق المغتصبة فقط، فهذه كلها تندرج تحت عنوان أوسع وأشمل، هو أن الحرب حرب عقيدة بالمقام الأول؛ فأي إخراج للمعركة عن حقيقتها العقدية خسارة كبيرة، وحيث إن الأمر كذلك، فلا بد من تحرير المصطلحات: لقد كنا لسنين طويلة منذ كنا صغاراً نسمع في الإذاعات وعلى ألسنة السياسيين العرب تعبير: العدو الصهيوني، أو العدو اليهودي، أو الكيان الصهيوني، فذهبت العدو، وذهب الكيان، ثم ذهب الصهيوني واليهودي، وصرنا نسمع قولهم: إسرائيل، أو دولة إسرائيل! وليس الأمر صدفة، بل هو أمر مقصود ودبر بليل، كي تتقبل الأجيال الجديدة هذا الكيان، وتألف وجوده بيننا وكأنه هو الأصل، وقد عدلت مناهج من أجل هذا الغرض الخبيث. كذلك، فإن لفظ المقاومة وإن كان لا محذور فيه، إلا أن الأولى أن يقال جهاد، فهو التعبير الشرعي وله وقعه المزلزل في قلوب العدو؛ وأيضاً من قال: حربنا مع الصهاينة لا اليهود مخطئ، فحربنا معهما جميعاً، وهكذا، فلا بد من التنبه للمصطلحات.

 

الوقفة الخامسة: إن كانت العمليات العسكرية في غزة قد انتهت، فإن المعركة لم تنته، وقبل أيام قال خالد مشعل وفقه الله وإخوانه لكل خير، إن المعركة في منتصفها، فالمعابر لم تفتح والحصار لم يفك. وقد علمتنا التجارب أن النصر العسكري قد يتحقق، لكن الألاعيب السياسية تذهب بثمرته أو تضعفها، كما حصل في حرب رمضان 1393، ويسمونها حرب أكتوبر 1973، فقد حطم الجيش المصري الصائم يومها بصيحات الله أكبر التي كانت شعاره، خط بارليف الحصين الذي أقامه اليهود على طول الحدود الغربية لسيناء، ذلك الخط الذي كان الخبراء العسكريون في الشرق والغرب يقولون إنه لا سبيل لتحطيمه إلا بالقنابل النووية! ولكن، رغم تحقق النصر، إلا أن الساسة كانوا يريدونها حرب تحريك للعملية السياسية، لا حرب تحرير، فوقعت ثغرة الدفرسوار، ثم وقف إطلاق النار، ثم بدأ مسلسل عملية السلام، وتم توقيع معاهدة كامب ديفيد التي ما زلنا نجني مر ثمارها حتى اليوم. ونحن نثق بإخواننا في حماس وندعو الله أن يوفقهم في المعركة السياسية كما وفقهم في المعركة الحربية، وأن يكبت عدوهم ويذله، وأداؤهم حتى اليوم يبشر بكل خير، فرفضهم لوجود قوات دولية على أرضهم، وقولهم إن أي قوات تأتي ستعامل كقوات غازية معادية، ورفضهم قرار مجلس الأمن الذي كان مبلغ ما تمناه كثير من العرب الرسميين، يظهر مدى وعي القيادة لألاعيب السياسة، التي ستحاول جاهدة أن تخطف النصر من أهل الإسلام، وتعطي اليهود بالسياسة ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب.

 

الوقفة السادسة: معركة غزة بكل أبعادها؛ العسكرية والسياسية والإعلامية، وغيرها، ليست نهاية الحرب بيننا وبين يهود، فلن تضع الحرب بيننا وبينهم أوزارها حتى لا يبقي الله منهم أحداً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود"(1)، وقد سمعنا مراراً أنهم يكثرون من زرع هذه الشجرة في محيط القدس، وبهذا الحديث يظهر خطأ من يقول إن الحرب ستنتهي يوم يرحل آخر يهودي عن أرض فلسطين.

 

الوقفة السابعة: إن هذا النصر الكبير الذي تحقق بفضل الله، ما كان ليكون لولا انتصار من نوع آخر، هو انتصار المبادئ، وهو الانتصار الأكبر. لقد وعد الله عباده المؤمنين بالنصر على عدوهم في أكثر من آية، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، إلا أننا نرى من الأنبياء من قتل كزكريا ويحيى، ومنهم من أخرجه قومه كإبراهيم، ومنهم من كاد أن يقتله أعداؤه فرفعه الله إليه كعيسى، عليهم السلام، وكذلك من المؤمنين من قتلهم أعداؤهم كأصحاب الأخدود، إلى غير ذلك، ومع ذلك فالنصر متحقق لهم جميعاً، لأنهم ثبتوا على الدين، وهذا نصر وكرامة، كما قيل: أعظم الكرامة الثبات على الاستقامة، ولأن الإيمان الذي حملوه ودعوا إليه بقي حياً، فكانت دماؤهم وأشلاؤهم مداد هذا الإيمان ومادته.

 

وقد رأينا في غزة انتصار المبادئ، فالشيخ نزار ريان رحمه الله كان قد أفتى قبل سنوات ألا يخرج أحد ويغادر داره أو بلدته خشية القصف، ولما تعرض هو لهذا الموقف ثبت على مبدئه رحمه الله حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى عزيزاً كريماً شهيداً، نحسبه كذلك والله حسيبه.
وكذلك الشيخ سعيد صيام وزير الداخلية رحمه الله، الذي سبق أن قال: ما انتسبنا للحركة الإسلامية لنكون وزراء بل لنكون شهداء، فنحسبه ممن صدق الله فصدقه الله ومات شهيداً، والله حسيبه.
وقبل ذلك قال رئيس وزراء فلسطين إسماعيل هنية حفظه الله: لو علقونا على أعواد المشانق فلن ينتزعوا منا المواقف! فهذا ثبات عظيم على المبادئ، أظهرت الأيام أنه ليس مجرد كلمات جوفاء، بل كلمات تمهر بالدماء والأشلاء.
وهذا من أعظم الدروس والعبر، التي لو لم نخرج من هذه المعركة إلا به لكفى، والحمد لله رب العالمين.

_______________
(1) صحيح مسلم 4/2239 (2922).