حوار الأديان بين الواقع والتنظير
28 ذو القعدة 1429
إبراهيم الأزرق

من الخطأ الشائع إطلاق الأحكام جزافاً على وسائل قد تستخدم في المشروع والممنوع، ولا سيما إذا كانت تلك الوسائل لا تنفك عن مشروع أو ممنوع في واقع الناس.
ومن ذلك إطلاق حكم كلي على حوار معين بأنه مشروع أو ممنوع، وذلك قبل أن نعرف هدفه وما يريده المتحاورون منه، وما سوف يؤدي بهم إليه، وفقاً لقرائن الأحوال ومقتضيات الواقع، لا وفقاً لما يحلم به أو يقوله أحد طرفي الحوار.

ويخطئ من ينزل ما تقرر عنده من حكم مطلق على وقائع مقيدة، فالمشي مثلاً الأصل فيه الجواز، لكن لا ينبغي أن يَحْتَجَّ فقيهٌ بهذا الأصل إذا سئل عن المشي إلى بيت بغاء!
بل ينبغي أن يُفصل كأن يقول: إن علم أن عاقبة ممشاه تؤدي به إلى ريبة أو فتنة فممشاه حرام، وإن علم أنها تؤدي به إلى إنكار منكر، ومنع محرم فممشاه واجب أو مندوب.
وهكذا شأن الحوار، إذا أردت أن تعرف حكمه فأجب على السؤال: إلى أي شيء سوف يكون مؤداه فيما يغلب على الظن؟ وكيف هو؟ وعليه يترتب حكمه.

وهنا ينبغي أن نكون واقعيين، فلا نكتفي بمراداتنا الجميلة، لنحكم بكل سذاجة بأن غرض الحوار هو ذلك الحلم الوردي الذي خُيِّل إلينا، وأن نتيجة الحوار سوف تحوم حوله! بل انظر في الواقع ومن تحاور وما عندكما من مقومات، ثم انظر هل يغلب على الظن مع تلك الأحوال تحقيق مرادك أم لا؟

فلا تكفي إرادتك الخير من وراء الحوار لتسويغه والحكم بمشروعيته، ولهذا ذُم الجدل والمراء ولو كان صاحبه محقاً، ونهى الله بعض خيرة رسله لما جادلوا في قضايا كان لهم خلف الجدال فيها مرادات حسنة، قال الله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [هود: 74-76]،  وفي القرآن أُمر نبينا عليه الصلاة والسلام بالإعراض عن أقوام في غير موضع.

وإني لأعجب عندما يقرر بعض الفضلاء أموراً مقررة في بدائه العقول قبل أن تكون مقررة عند حملة الشريعة من العلماء والدعاة وطلاب العلم، محتجين بها على مخالفيهم من أهل الفضل! ثم تفهم من عبارات بعضهم أن ما جاء به -مما هو مقرر- هو التحقيق ونتيجة الفهم والنظر العميق!

ومن ذلك ما يقرره بعضهم حول حوار الأديان، تجد أحدهم يصعد المنبر فيدبج الكلمات، أو يمسك القلم فيسود الصفحات ليقرر أن أصل الحوار مع الكافر مشروع، سواء أكان في قضايا شرعية، أم دنيوية تجارية أو غيرها! ويحسب أنه بهذا قد قطع حجة المنازع في مشروعية حوار معين! فهو مشروع عنده لأنه يريد من ورائه الاجتماع مع أهل الأديان على محاربة الفواحش ومهددات الأسرة مثلاً، وينسى أن في هذا الهدف بين أهل الأديان تفاوتاً عظيماً، وربما تغافل كذلك عن حال من يرعى هذا الحوار من الجهات التي لها سلطة إصدار القرار، فيؤيد حواراً كهذا وهو يعلم أن الجهة المخولة به ترى المساس بما تسميه حريات من الجرائم التي على نقضها بني ميثاقها، وصدرت معاهداتها.

وحوارات الأديان التي ترعاه المنظمات الأممية الكافرة اليوم لا تخلو من عدة محاذير تجعل الإسهام فيها ضرباً من الجناية على الأمة، ومن تلك المحاذير:
أولاً: فتح باب الحوار في مسلمات الشريعة ونقد ما جاءت به، فمعلوم أن حوار الأديان ليست قضيته بحث الإفادة من المشترك بين أهل الأديان فحسب، فإن أُقر مبدؤه وشرع الناس في جلساته، فقد تنتهي بهم الحال إلى الجلوس من أجل التفاوض في مسلمات الشريعة التي يتهجم عليها بعض المتحكمين من الغربيين بين فينة وأخرى، وعندها سوف يعض أصابع الندم من مهد طريق الجلوس لبني الإسلام كي يتفاوضوا ويقرروا حول تلك القضايا التي ابتعد أو أبعد من دائرة الحوار حولها. br />

ثانياً: من تتبع المراد بحوارات الأديان العالمية التي ترعاها المنظمات الدولية اليوم، يجد أن من أهدافها إقرار مبدأ المعايشة السلمية، وهذا يصرحون به في كل محفل حتى في الحوار الأخير الذي رعته الأمم المتحدة، وهذا المبدأ لاينبغي أن نفسره بسذاجة، بل علينا أن ننظر لمراد القوم منه، ومن نظر في هذا تبين له أنه لا يتطلب منا رفض جهاد الطلب فحسب، بل يتطلب منّا ترك إنكار أكبر المنكرات وهو الشرك بالله العظيم، بل واجب علينا بناء عليه أن نحترمه، وليس الاحترام المقصود هو ما يصوره بعض من لم يتبصر في الواقع، من ترك سب الذين يدعون من دون الله كي لا يسبوا الله عدواً، بل الاحترام عندهم معنى يتجاوز ذلك، يقتضي تقدير الشرك وغيره من أديان الكفر كأديان معتبرة محترمة، يحق لمن شاء اعتناقها، ولو شاء الخروج من الإسلام إليها، كشأن المذاهب الفقهية المعتبرة عندنا!

ثالثاً: كثير من مواثيق وعهود الهيئات الأممية تجعلنا نحكم بأن الحوار في كثير من القضايا مع من يلتزمون بتلك المواثيق لا يمكن أن تنتج عنه ثمرة ترتضيها الشريعة، حتى وإن كان هدف الحوار هو تعزيز مكارم الأخلاق ومحاربة رذائلها والمحافظة على شأن الأسرة. فقوم يقررون مبدأ الحريات ويقدسونه من ديباجة تأسيس ميثاقهم حتى آخر معاهداتهم لن تكون ثمرة الحوار معهم في القضايا الأخلاقية تجريم الزنا مثلاً أو الشذوذ، فتجريم هذه الجرائم مما يخالف مواثيقهم، ويخالف مطالب اللجان الحقوقية عندهم، لكن قد تكون غايته تجريم ما يسمونه جرائم، وهذه فيها حق وباطل، فهم يعدون منع الزنا بالتراضي مثلاً جريمة لأنه نوع من كبت الحريات، وقل مثل ذلك في الإلزام بالستر والحجاب .. أما الحق الذي قد نخرج به فيتلخص في سن تشريعات وأمور تراعي الأسرة، وتكفل شيئاً من حقوق الأمومة، ونحو ذلك مما هو مقرر عندنا على أوجه لا تضاهيها مقرراتهم.
إذاً فليست ثمرة مثل هذا الحوار مع هؤلاء رفعهم إلى مبادئ شريعتنا في قضايا الأسرة ونحوها، بل قد ينجم عنه إلزامنا بشيء من مبادئهم في الحريات أو غيرها، ومحصلة ذلك تنازل منا لا رقي منهم إلى مقررات شريعتنا.

رابعاً: لو فرض حصول مقصودنا من الحوار -وهو بعيد- فغايته دعوة الكافرين إلى ترك الرذائل ومحاربة مهددات الأسرة، وسن دساتير تكفل ذلك توافق شريعتنا، التي ينبغي أن نطبقها في أنفسنا أولاً سواء حاورناهم أم لا، وبعد ذلك يتوجب علينا دعوة الآخرين إليها بالمنهج النبوي، الذي أَرسل به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى أهل اليمن، فكان مما أوصاه به أن قال: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة..." الحديث رواه البخاري ومسلم.

ومن الانحراف في المنهج أن ننحرف عن دعوة الكافرين إلى التوحيد لنتشاغل بالدعوة إلى قضايا أخرى دونه، وذلك لأمرين:
الأول: لأن ذلك لن ينفعهم مع شركهم بالله وكفرهم برسوله.
والثاني: لأن توحيد الله تعالى أساس علاج المشكلات الأخرى إن هو تحقق، وإن لم يتحقق عسُر العلاج، وقد صرف الله عن بعض أنبيائه السوء والفحشاء بتحقيقه التوحيد، قال الله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه كان من عبادنا المُخْلِصِين) كذا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر.

وكما أن دعوة الناس إلى غير التوحيد مع حاجتهم إليه انحراف عن المنهاج الذي أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كذلك غش للمحاورين، واعتبر هذا بمريض جاء يشكو مرضاً في رأسه سوف يهلك جراءه إن ترك، فطفق المعالج يعالج بعض الأعراض الجانبية، وترك أصل الداء، فهل من صنع هذا قد نصح له؟
أسأل الله أن يبصرنا وإخواننا بمقاصد الأمور وعواقبها، وأن يجعل لنا ولهم فرقاناً، وأن يجنبنا صراط المغضوب عليهم والضالين، والحمد لله رب العالمين.