من توابع الانتخابات الأمريكية: وماذا صنعت الديمقراطية؟!
26 ذو القعدة 1429

لا يخفى على كل ذي عقل ولب أن كثيراً من بلاد المسلمين تعاني من حكومات متسلطة مستبدة، تتحكم فيها فئة أو طائفة أو حزب أو يتحكم فيها فرد بمصير أبنائها دون الرجوع إليهم رجوعاً حقيقياً، وإنْ رفع كثير من هذه الحكومات شعارات كاذبة عن الحرية والديمقراطية.
في ظل هذه الظروف الضاغطة يجد كثير من الناس ضالتهم المنشودة لتحقيق شيء من الحرية والمشاركة في تقرير المصير في الديمقراطية الغربية التي تعطي للناس قدراً كبيراً من الحرية غير موجود في كثير من بلاد المسلمين، وبفوز أوباما كأول رئيس أمريكي من أصل إفريقي تعالت الأصوات التي تثني على الديمقراطية الأمريكية وتمجدها حتى وصلنا إلى حال يمكن تسميتها بهوس الديمقراطية.
ولئن كان من المفهوم أن ينخرط العلمانيون والليبراليون في هوسها، فليس من المفهوم ولا المبرر أن ينخرط بعض الصالحين من طلبة العلم وغيرهم في هذا الهوس فيثنوا -من حيث شعروا أو لم يشعروا- على الديمقراطية الغربية، لا سيما إذا كانوا يعلمون حقيقة الديمقراطية، وإننا مع احترامنا وتقديرنا لهؤلاء الأخيار الذين لا نشك في إخلاصهم وصدق نواياهم وحرصهم على الدعوة، فلا يمكننا أن نوافقهم على ما ذهبوا إليه ولا يمكننا إلا أن ندعو الجميع لنظرة أكثر عمقاً وبعداً.
إن الديمقراطية مصطلح يعني: السيادة للشعب، أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه، بمرجعية يحددها هو لا بمرجعية ربانية تتمثل في دين ارتضاه الله لعباده، فهي في نهاية المطاف تمرد على حكم الله الذي لا حكم مقبول عنده سبحانه إلا حكمه كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [سورة الأنعام:57]، فهي والحال كذلك لا يمكن قبولها شرعاً.
ومن جهة الواقع فإننا نرى خلطاً كبيراً بين مفهومي الحرية والديمقراطية، فبرغم الحجم الكبير من الحريات الذي توفره الديمقراطية الغربية في كثير من نواحي الحياة، إلا أن تحقيقها لحرية الشعب في أن يحكم نفسه بالفعل -وهذا هو لب الديمقراطية- محل شك لأكثر من سبب؛ فلو نظرنا إلى الانتخابات الأمريكية الأخيرة لوجدنا قطاعاً كبيراً من الناخبين لم يكونوا يعرفون من هو أوباما قبل أشهر معدودة، لكن الإعلام قام بدور هائل في دعمه وتعريف الناس به وتوجيههم بطريق مباشر وغير مباشر لانتخابه، ومعلوم للجميع أن الإعلام الأمريكي يدار بواسطة عصبة معروفة، وهذه لم تكن لتدعمه هذا الدعم ما لم يكن يحقق مصالحها، كذلك فإن الملايين من الدولارات التي ينفقها أصحابها على الحملة الانتخابية لا تنفق بلا مقابل، بل لا بد أن تعود بالنفع على أصحابها في صورة مصالح يحققها لهم المرشح، وكذلك لا ننسى محاولات كل مرشح خطب ود جماعات الضغط -التي يُعتَبر "اللوبي الصهيوني" من أقواها- حيث يحرص على بيان ولائه لخياراتها، فكل هذه الأمور تؤثر في الناخبين تأثيراً زائداً على تأثير الأفكار والرؤى التي يحملها المرشح والتي من أجلها ينبغي أن يختاره الناس.
ومن الأمور اللافتة للنظر أن الناخب الذي يمارس حقه في التصويت يبقى أسير من انتخبه طوال مدة ولايته وإن خالف ما انتخبه من أجله، ففي أمريكا وغيرها من البلاد الغربية نسمع أحياناً عن استطلاعات للرأي تبين أن شعبية الرئيس في أدنى مستوى، وأن الشعب غير راض عن أدائه وأنه لو أجريت الانتخابات الآن لما فاز فيها، ومع ذلك فإنه يبقى يحكم طوال فترة حكمه، فأين سيادة الشعب وحكمه لنفسه؟
لقد رجعنا في الحقيقة إلى نوع من الديكتاتورية؛ ديكتاتورية وسائل الإعلام ومن يقف وراءها، ديكتاتورية ممولي الحملة الانتخابية، ديكتاتورية جماعات الضغط، أو ديكتاتورية الرئيس نفسه؛ وكل ذلك يُلَفُّ بغلاف رقيق براق مكتوب عليه "الديمقراطية"!
لقد أعلن أوباما أن فوزه يمثل رداً عملياً على كل من شكك في قيم الديمقراطية الأمريكية، وهذا تسطيح مخل، لأن كثيرين انتخبوه رفضاً لسياسات بوش وحزبه وانتقاماً منه، وكثيرين انتخبوه لمجرد كونه أسود مثلهم مما لا يقل عنصرية عمن لم ينتخبه لنفس السبب، وهو تسطيح مخل كذلك لأن هذا الكلام يعني ضمناً أن خسارته الانتخابات تعني خسارة قيم الديمقراطية الأمريكية، مع أن خسارته كانت ستكون على يد الشعب، بمعنى أن سيادة الشعب حينها لم تكن ستحقق الديمقراطية وهذا تناقض ظاهر!
ولله كم من ديكتاتور جاءت به الديمقراطية في الشرق البلشفي، والغرب الأوربي.
ولاتدري لعل المطبلين للرئيس الأمريكي الجديد المنبهرين بالديمقراطية يفيقون بعد أمد وقد تبين لهم أن الديمقراطية لم تصنع شيئاً غير أنها جاءت بديكتاتور جديد يدعا أوباما!
إن شعوب أمتنا بحاجة إلى مزيد من الحريات في مجال المشاركة في صنع القرار، هذا أمر لا خلاف حوله، كما أنه لا خلاف على رفض كل صور الاستبداد والطغيان، كما قال عمر رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"، لكن هذا لا يعطي الحق لأحد أن يضع الأمة أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الديكتاتورية البغيضة وإما الديمقراطية اللقيطة.
لقد وضع الله سبحانه وتعالى منهجاً ربانياً شعاره {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [سورة آل عمران:159]، مشاورة لا تتجاوز بالجميع حكاماً ومحكومين حدود الله تعالى، أو بعبارة أخرى مشاورة يكون غايتها تحقيق قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، وبالله التوفيق.