هناك بعض الأوهام المتعلقة بمفهوم العمل المتعدي والقاصر، والمقصود بالعمل المتعدي هو ما يتعدَّى نفعُه صاحبَه إلى غيره، كالدعوة إلى الله، وتعليم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقضاء حوائج الناس، والنفقة؛ أما الفعل القاصر فهو ما اقتصر نفعه على صاحبه كقراءة القرآن والصلاة والصيام والذكر.
حتى إن بعضهم بسبب هذا الوهم يقول: ليت ابن تيمية اشتغل بالتأليف بدل جلوسه لذكر الله من بعد صلاة الفجر إلى الضحى، فإنه عمل قاصر. وهذا بلا شك خطأ محض وفهم قاصر، فهذه الجلسة ونظائرها من العبادات هي التي أعانته على الجهاد الحقيقي، بالسيف والسنان، والقلم واللسان، إلى أن لقي ربه عالماً عاملاً رحمه الله.
ولا شك أن الأصل في نفع الأعمال المسماة قاصرة يعود على صاحبها بالدرجة الأولى، ولكن هذا لا يعني بحال أن النفع لا يجاوزه إلى غيره.
فهذا خلاف الصواب نقلاً وعقلاً، أما نقلاً فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال]، فعلَّق الفلاح والغلبة على العدو بالثبات والذكر، فدلَّ أن نفع الذكر ليس قاصراً على صاحبه، بل يتعداه إلى باقي المؤمنين، والذي يقطع كل شك حول هذه النقطة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم»(1)، فبيَّن –عليه السلام- أن نصر هذه الأمة بدعوة الضعفاء وصلاتهم وإخلاصهم، بل عظَّم من شأنها فاستخدم أداة الحصر "إنما"، كأن النصر لا يكون إلا بذلك، فهل يصح بعد ذلك أن يُقال: إن الصلاة والإخلاص من الأعمال القاصرة بالمفهوم المتقدم؟ وقد فهمت الأمم قديماً ذلك؛ فقال قوم شعيب عليه السلام لنبيهم: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87]، فعلموا أن الصلاة يتعدى نفعها إلى إصلاح العقيدة والمال، فأي نفع أعظم من ذلك، ولذلك قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
أما عقلاً فإن لهذه الأعمال المسماة بالقاصرة أثراً لا يُنكر على صاحبها، حيث تصقل شخصيته، وتصفي ذهنه، وتعطيه عوناً كبيراً على أداء واجبات الدعوة والتعليم وغيرها من الأفعال المتعدية، كما أنها تهذِّب أخلاقه، وتضبط تصرفاته، وتنظِّم حركاته وسكناته، فيكون داعية بفعله قبل كلامه، وهذا أدعى للتأثير في المحيط، وأرجى لقبول النصح منه والإرشاد؛ بل بكونه قدوة لمن بعده، وانظر كيف وجَّه النبي أمَّته إلى صلاة داود - عليه السلام – وصيامه؛ فجعله قدوة في ذلك مبيناً أنه لا أفضل من صلاة وصيام داود تطوعاً. أليس هذا من أعظم العمل المتعدي؟!.
إذاً هذه الأعمال التي يُقال إنها أعمال قاصرة على صاحبها، كالصلاة والاعتكاف والصيام والذكر، هي قاصرة من وجه، متعدية من وجه آخر، بل هي أساس في الدعوة إلى الله – جل وعلا -، في القيادة، وفي إصلاح المجتمع، وفي التربية، وفي التغيير المرجو؛ سواء على مستوى الفرد، أو المجتمع، أو الدولة، أو الأمة، وهذا الفهم هو المدخل الصحيـح لامتثال قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
_____________________
(1) سنن النسائي 6/45 (3178) وصححه الألباني.