صوم أيام عشر ذي الحجة. (دراسة حديثية)
25 ذو القعدة 1439
د. عمر بن عبد الله المقبل

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد.

فقد ورد في الحث على صيام أيام عشر ذي الحجة بعض الأحاديث، أذكر منها ما تيسر، ثم أعقبها بالجواب عن السؤال الثاني(*)، ومن الله التوفيق والتسديد.

أولاً: قال أبو داود 2/815 باب في صوم العشر ح (2437):

حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن الحرّ بن الصيّاح، عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر والخميس ".

تنبيه: في رواية ابن داسة، وابن الأعرابي: أول اثنين من كل شهر والخميس، والخميس (بتكرار الخميس) وهي الموافقة للروايات الأخرى كما سيأتي إن شاء الله في التخريج (سنن أبي داود 3/183، ط. عوامة).

وقبل ذكر تخريجه، يحسن أن أسوق بعض تراجم رواة الإسناد، ممن في تراجمهم بعض الكلام عند أهل العلم ولها أثر في الحكم على الحديث، ليتسنى للقارئ الكريم المشاركة في النظر والمقارنة.

1/ هنيدة بن خالد: هنيدة بنون مصغر، ابن خالد الخزاعي، ويقال النخعي، ربيب عمر رضي الله عنه، مذكور في الصحابة، وقيل من التابعين، ذكره ابن حبان في الموضعين.روى عن علي، و عائشة، وأمه أو امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم سلمة، وعنه الحر بن الصياح وأبو إسحاق السبيعي. "وممن عدّه في الصحابة ابن حبان ـ في أحد قوليه – وأبو عمر ابن عبد البر، وابن منده، وقال أبو نعيــم مختـلف في صحبته، ثم ساق من طريق أبي إسحاق، عن هنيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يأخذ هذا السيف بحقه "فأخذه رجل من القوم ثم ساق الحديث بما يشابه قصة أبي دجانة تماماً، وفيها أبيات من الشعر إلا أنه قال في آخره: "فقاتل به حتى قتل ". إلا أن أبا دجانة لم يمت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ". ا هـ. ملخصاً من الإصابة.

وبكل حالٍ فإن لم يكن صحابياً فهو ثقة، وعلى الثاني جرى العلائي في جامع التحصيل وجزم به، والذهبي في الكاشف حيث قال: "ثقة "، والله أعلم.

 

2/ عن امرأته: قال الحافظ في التقريب: لم أقف على اسمها، وهي صحابية، روت عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أمه – أي أم هنيدة – وكانت ـ أي أم هنيدة – تحت عمر، صحابية أيضاً. وقد تقدم أن هنيدة عدّة بعضهم في الصحابة. ا هـ. ما قاله الحافظ بتصرف.

ولم أقف على دليل الحافظ في جزمه بصحبة امرأة هنيدة بن خالد، إلاّ أن يكون مستنده، أنه إذا كان هنيدة معدوداً في الصحابة، فزوجته يحتمل أن تكون كذلك، ولكن هذا غير كاف، إذ وجد في الصحابة من تزوجوا من التابعيات – هذا على فرض صحة صحبة هنيدة -، والله أعلم.

وقد بحثت في جملة من كتب الصحابة، ككتاب "معرفة الصحابة"لأبي نعيم و "معجم الصحابة "لابن قانع، و"الاستيعاب"لابن عبد البر، و"أسد الغابة"لابن الأثير، "والإصابة "لابن حجر، فلم أجد ذكراً لهذه المرأة. والله أعلم، وينظر: التقريب / 763.

 

3/ عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : نصّ ابن حجر على أنها أم سلمة – كما تقدم – في ترجمة هنيدة بن خالد – وقد رواه كذلك الحسن بن عبيد الله، والحر بن الصياح – على اختلاف عليه إذ رواه آخرون عن الحر، عن هنيدة، عن حفصة رضي الله عنها ـ كما سيأتي في التخريج ـ.

تخريجه:

*أخرجه النسائي 4/205 باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم ح (2372)،وفي باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح (2417، 2418)، وأحمد 5/271،6/288،423 من طرق عن أبي عوانة به بنحوه، إلاّ أن في ألفاظهم: "أول اثنين وخميسين "، وهذا هو الموافق لقولها: "ثلاثة أيام "، وأما رواية أبي داود فقد سبق الإشارة إلى أنها في بعض روايات السنن: "والخميس والخميس "بالتكرار.

*وأخرجه النسائي 4/220، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح (2416)، وأحمد 6/287، وابن حبان 14 / 332 ح (6422) من طريق أبي إسحاق الأشجعي، عن عمرو بن قيس الملائي،

والنسائي في "الكبرى "2/135، باب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ح (2723) من طريق زهير بن معاوية أبي خثيمة،

والنسائي في "الكبرى "2/135، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح(2722)، من طريق شريك،

ثلاثتهم (عمرو، وزهير، وشريك) عن الحر بن الصياح، عن هنيدة، عن حفصة، إلاّ أن لفظ عمرو هو: "أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم : صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة "، ولفظ زهير: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، أول اثنين من الشهر، ثم الخميس، ثم الخميس الذي يليه "، ورواه شريك فجعله من مسند ابن عمر بلفظ حديث زهير.

*وأخرجه أبو داود 2/822، باب من قال الاثنين والخميس ح (2452) عن زهير بن حرب،

والنسائي 4/221، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح(2419) عن إبراهيم الجوهري،

وأحمد 6/289، 310،

ثلاثتهم (زهير، والجوهري، وأحمد) عن محمد بن فضيل،

والطبراني في "الكبير "23/216، 420، من طريق عبد الرحيم بن سليمان،

كلاهما (ابن فضيل، وعبد الرحيم) عن الحسن بن عبيد الله، عن هنيدة، عن ـ أمه – لم يقل عن امرأته – عن أم سلمة فذكر نحوه، إلاّ أنه ليس في حديث الحسن بن عبيد الله ذكر لصيام تسع ذي الحجة، وصيام يوم عاشوراء، بل اقتصر على الأمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر قال زهير في حديثه: "أولها الاثنين والخميس "، ولفظ الجوهري: "أول خميس، والاثنين والاثنين "بالتكرار، ولفظ أحمد: "أولها الاثنين والجمعة والخميس ".

 

الحكم عليه:

إسناد أبي داود رجاله ثقات،إلاّ أنه وقع في إسناده ومتنه اختلاف على هنيدة، الذي مدار الحديث عليه:

1 – فرواه الحر بن الصياح عن هنيدة، واختلف عليه:

أ – فرواه أبو عوانة عنه، عن هنيدة، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

ب – ورواه عمرو بن قيس الملائي – وعنه أبو إسحاق الأشجعي الكوفي – عن هنيدة، عن حفصة بلفظ قريب، وفيه زيادة: "وركعتي الغداة "، إلا أن أبا إسحاق الأشجعي هذا تفرد بالرواية عنه هاشم بن القاسم أبو النضر، كما في تاريخ بغداد 9/105، والميزان 4/489.

جـ – ورواه زهير بن معاوية أبو خيثمة عنه، عن هنيدة، عن حفصة، وخالف في لفظه – كما تقدم – فاقتصر على صيام الأيام الثلاثة من كل شهر.

د – ورواه شريك عنه، عن ابن عمر، وهذا من سوء حفظ شريك، إذ لم يتابعه أحد – فيما ووقفت عليه – على هذا الوجه، وهو "صدوق يخطئ كثيراً "كما في التقريب (266).

2 – ورواه الحسن بن عبيد الله، عن هنيدة، عن أمه، عن أم سلمة، واختلف عليه في لفظه، كما سبق بيانه في التخريج.

 والحسن هذا وثقه يحيى القطان، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: لم أخرج حديث الحسن بن عبيد الله لأن عامة حديثه مضطرب، وضعفه الدارقطني، حيث قال لما ذكر حديثاً للحسن خالف فيه الأعمش: "الحسن ليس بالقوي،ولا يقاس بالأعمش"كما في تهذيب التهذيب 2/267.

 ومما سبق يتبين أن الحديث قد اختلف في إسناده ومتنه كثيراً، وهذا دليل على أن الحديث ضعيف، كما أشار إليه المنذري 3/320، وقال الزيلعي في نصب الراية 2/157: "وهو ضعيف "، وعلل ضعفه بهذا الاختلاف.

وقد تقدم أن ابن حبان صحح الوجه الذي رواه أبو إسحاق الأشجعي عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحر، عن هنيدة، عن حفصة، وهذا التصحيح متعقب بأن أبا إسحـاق لم يرو عنه غير هاشم بن القاسم، ومثل هذا بعيد أن يصحح حديثه إذا انفرد، فكيف وقد وقع فيه هذا الاختلاف في إسناده ومتنه.

ومما يضعف به حديث الباب إضافة إلى ما سبق، أن ما تضمنه من الإخبار عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم لتسع ذي الحجة، مخالف لما ثبت في صحيح مسلم 2/833 ح (1176)، وأبي دواد 2/816، باب في فطر العشر ح (2439)، والترمذي 3/129، باب ما جاء في صيام العشر ح (756)، ولفظ مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط "، ولفظ مسلم الآخر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر ".

ويضاف إلى ذلك أيضاً: السماع، فليس في شيء منه التصريح بالتحديث سوى رواية أمه عن أم سلمة رضي الله عنها، والله أعلم.

 

ثانياً: قال الترمذي 3/131 باب ما جاء في العمل في أيام العشر ح(758):

حدثنا أبو بكر بن نافع البصري، حدثنا مسعود بن واصل، عن نهاس بن قهْم، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة:"ما من أيامٍ أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كلِّ يوم منها بصيام سنة. وقيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر ".

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث مسعود بن واصل، عن النهاس، قال: وسألت محمداً عن هذا الحديث فلم يعرفه من غير هذا الوجه مثل هذا، وقال: قد روي عن قتادة، عن سعيد بن المسيَّب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً شيءً من هذا.

وقد تكلم يحيى بن سيعد في نهاس بن قهم من قبل حفظه.

رواة الإسناد: وأكتفي هنا بترجمة من لهم أثر في الحكم على السند:

1/ مسعود بن واصل: الأزرق، البصري، صاحب السَّابَري،روى عن النهاس بن قهم، وغالب التمار وعنه بسطام بن نافع، وأبو بكر بن نافع.

 قال أبو داود: ليس بذاك، وقداستغرب الترمذي حديثه الوحيد في السنن، وقال ابن حبان عنه – لما ذكره في الثقات ـ: ربما أغرب، ونقل الدارقطني أن أبا داود الطيالسي ضعَّفه، ولذا قال الحافظ ابن حجر: "لين الحديث".

2/ نهاس بن قهم: بتشديد الهاء في "نهاس"، وسكونها في (قهم)، القيسي، أبو الخطاب البصري.

اتفقت كلمة الحفاظ على تليينه وتضعيفه وإن اختلفت عباراتهم، حتى قال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، ولهذا ذكره الذهبي في الديوان، وقال ابن حجر عنه: "ضعيف".

أما بقية رجاله، وهم قتادة، وابن المسيب، فهم أئمة كبار، وشهرتهم تغني عن نقل توثيقهم.

تخريجه:

*أخرجه ابن ماجه 1/551، باب صيام العشر ح(1728)،

والخطيب في "تاريخ بغداد"11/208 من طريق محمد بن مخلد العطار،

كلاهما (ابن ماجه، والعطار) عن عمر بن شبة، عن مسعود بن واصل به بنحوه.

*وأخرجه الترمذي في العلل الكبير ص(120) ح(206) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة،

وعلقه الدارقطني في "العلل"9/200 عن الأعمش عن أبي صالح،كلاهما (أبو سلمة، وأبو صالح) عن أبي هريرة بنحوه، ولفـظ أبي سلمة: "ما من أيام أحب إلى الله العمل فيهن من عشر ذي الحجة: التحميد، والتكبير،والتسبيح والتهليل".

 

الحكم عليه:

إسناد الترمذي فيه مسعود، والنهاس، وكلاهما ضعيف – كما تقدم – وقد قال الإمام الدارقطني في "العلل"9/199: "وهو حديث تفرد به مسعود بن واصل،عن النهاس بن قهم، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة ".

ومع هذا التفرد في وصله، فإن بعض الأئمة صوَّبوا كونه عن قتادة، عن سعيد بن المسيب مرسلاً كما أشار إلى ذلك البخاري – فيما نقله عنه الترمذي عقب إخراجه للحديث – وقال الدارقطني في "العلل"9/200: "وهذا الحديث، إنما روي عن قتادة عن سعيد بن المسيب مرسلاً".

وهذا المرسل الذي صوَّبه الأئمة من رواية قتادة، عن سعيد بن المسيب، سلسلة جعلها الحافظ ابن رجب – كما في شرح العلل 2/845 – من الأسانيد التي لا يثبت منها شيء، أو لا يثبت منها إلاَّ شيء يسير،مع أنه قد روي بها أكثر من ذلك،ونقل عن البرديجي قوله – عن هذه السلسة –: "هذه الأحاديث كلها معلولة،وليس عند شعبة منها شيء،وعند سعيد بن أبي عروبة منها حديث، وعند هشام منها آخر، وفيهما نظر"ا هـ.

وقد بين الإمام أحمد سبب ضعفها أيضاً – فيما نقله عنه أبو داود في مسائله (304) – بقوله: "أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب ما أدري كيف هي؟ قد أدخل بينه وبين سعيد نحواً من عشر رجالْ لا يعرفون".

وأما الطريق التي رواها أبو صالح، فقد صوَّب الدارقطني – في العلل 9/200 – إرسالها.

وأما رواية الحديث من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، فقد سأل الترمذي الإمامين البخاري، وأبا عبدالرحمن الدارمي عنه، فلم يعرفاه من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وقـال الدارقطني في "العلل"9/200:"تفرد به أحمد بن محمد بن نيزك – وهو شيخ الترمذي في هذا الحديث – عن الأسود بن عامر، عن صالح بن عمر، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رفعه ".

وكلام الدارقطني في "العلل"كله يدور على أن الحديث لا يصح مرفوعاً من حديث أبي هريرة، بل هو مرسل، وعلى إرساله من رواية قتادة عن ابن المسيب، وهي سلسلة مطروحة.

 

وقد ضعف الحديث جماعة من أهل العلم، ومنهم:

1- الحافظ ابن رجب، في "لطائف المعارف"ص (459)، وفي "فتح الباري"9/16،17.

2- الحافظ ابن حجر، في "الفتح"2/534 ح(969).

 وقد جاء في فضل العمل في أيام العشر – دون تحديد نوعه، لا صيام ولا غيره – في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري 1/306، باب فضل العمل في أيام التشريق ح(969)،واللفظ له، وأبو داود 2/815، باب في صوم العشر ح(2438)، والترمذي 3/130، باب ما جاء في العمل في أيام العشر ح(757)، وابن ماجه 1/550، باب في صيام العشر ح(1727) من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلاَّ رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء".

 وأما تحديد العمل، ففيه حديث الباب وأحاديث أخر وكلها ضعيفة، أو موضوعة كما أشار إلى ذلك ابن رجب في "اللطائف"بقوله – بعد أن ذكر حديث الباب، وأحاديث أخر -: "وفي المضاعفة أحاديث مرفوعة، لكنها موضوعة، فلذلك أعرضنا عنها وعما أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر، وهي كثيرة... وقد روي في خصوص صيام أيامه، وقيام لياليه، وكثرة الذكر فيه، ما لا يحسن ذكره لعدم صحته "ا هـ، والله أعلم.

وبعد:

فإن ضعف هذه الأحاديث الواردة بخصوص الحث على صيام أيام العشر، لا يلغي مشروعية صيامها ؛لأنها بلا شك من جملة العمل الصالح الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري وغيره ـ كما سبق آنفاً ـ.

فإن قيل: ما لجواب عن قول عائشة رضي الله عنها ـ الذي سبق قريباً ـ: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط "أفلا يدل ذلك على استثناء الصيام؟

فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما ترك العمل خشية أن يفرض على أمته ـ كما في الصحيحين من حديث عائشة ـ أو لعلة أخرى قد لا تظهر لنا، كتركه قيام الليل، وكتركه هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأمثلة ذلك كثيرة.

ومن جملة هذه الموانع، أن تركه صلى الله عليه وسلم لصيام العشر قد يكون لأن الصيام فيه نوع كلفة، ولديه صلى الله عليه وسلم من المهام العظيمة المتعدي نفعها للأمة من تبليغ الرسالة، والجهاد في سبيله، واستقبال الوفود، وإرسال الرسل، وكتابة الكتب، وغيرها من الأعمال الجسام، فلو صام كل هذه الأيام لربما حصل فيها نوع مشقة.

الثاني: أن العمل يكفي لثبوت مشروعيته أي نص ثابت، ولا يلزم منه أن يعمله هو صلى الله عليه وسلم .

فهاهم الناس يصومون ستاً من شوال اعتماداً على حديث أبي أيوب المشهور، وغيره من الأحاديث، مع أنه ـ حسب علمي ـ لم يثبت حديث واحد يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يصومه، فهل يمكن لأحد أن يقول لا يشرع صوم الست لأنه صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه صومها؟! لا أعلم أحداً يقول بهذا بناء على هذا المأخذ الأصولي، وأما خلاف الإمام مالك ـ رحمه الله ـ فلم يكن يرى مشروعية صيامها، ليس بناء على هذا المأخذ، وإنما لأسباب أخرى معلومة عند أهل العلم، وليس هذا المقام مناسبا لذكرها.

وقل مثل هذا في سنن كثيرة العمدة فيها على عموميات قولية، لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم فعلها بنفسه، كصيام يوم وإفطار يوم، وصيام يوم عرفة ـ الذي هو أحد أيام العشر ـ وغيرها من الأعمال الصالحة.

الثالث: وهو مبني على ما سبق، أن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة، بل هو العمل الوحيد الذي اختص الله تعالى بجزائه ـ فرضاً ونفلاً ـ وورد في فضل نوافله أحاديث كثيرة يمكن لمن أراد الوقوف على بعضها، أن يطالع رياض الصالحين للنووي، أو جامع الأصول لابن الأثير، وغيرها من الكتب.

وقد راجعت كثيراً من كتب الفقهاء، وإذا هم يذكرون من جملة ما يستحب صيامه صيام أيام العشر ـ أي سوى العيد كما هو معلوم ـ ولم أر أحداً ذكر أن صيامها لا يشرع أو يكره.

والذي دعاني للإطالة في هذا المقام ـ مع ظهوره ووضوحه ـ هو أنني وقفت على كلام لبعض إخواني من طلبة العلم، ذكر فيه أن من جملة أخطاء الناس في العشر صيام هذه الأيام !! حتى أحدث كلامه هذا بلبلة عند بعض العامة الذين بلغهم هذا الكلام، و لا أدري هل سبقه إلى هذا أحد أم لا؟ ولا أدري ما الذي أخرج الصيام من جملة العمل الصالح؟.

وبما تقدم تفصيله يمكن الجواب عما استشكله ذلك الأخ وغيره، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

-------------

(*) أصل هذه المسألة سؤال ورد إلى الشيخ ما نصه: 

هل ثبت في الحث على صيام أيام العشر شيء مخصوص؟ ثم إن لم يثبت منها شيء فهل يعني هذا عدم مشروعية صيامها؟

وهو منشور على موقع الشيخ حفظه الله.