أمرت الشريعة الإسلامية بحفظ الأموال العامة فحفظ المال من الضرورات الخمس(1) التي هي مقومات بقاء الأمم وسعادتها، ولأن الوقف ملك لله - تعالى - احتاج إلى والٍ عليه أو قيّم، وهو ما اصَطَلح أهل العلم على تسميته بناظر الوقف أو المتولي أو القيّم أو والي الوقف والمشهور في البلاد العربية إطلاق اسم الناظر على من يتولى شئون الوقف.
واشترطوا له صفات مهمة، أولها الإسلام فلا تصح نظارة الكافر، وثانيها التكليف فلا تصح نظارة الصغير غير البالغ أو المجنون، ومن صفات ناظر الوقف المهمّة أن يكون ذا خبرة في نوع المال الموقوف، كما أن من صفاته أيضاً القدرة على إدارة أموال الوقف، ومن أجلِّ الصفات وأهمها وأولاها أن يكون أميناً على هذا المال قال - سبحانه -: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:٢٦].
والقوة: تستلزم قوة العلم والمعرفة وتستلزم قوة الجسد والبدن، بحيث يكون قادراً على العمل بما ينفع هذا الوقف ويرفعه وينميه، والأمانة تستلزم أن يكون صادقاً في تصرفاته، أميناً على الأموال التي تدرّها الأوقاف، ومع الأمانة لابد من المحاسبة والتدقيق ورصد الدفاتر الخاصة بالبيع والشراء والصرف ونحوها، قال - تعالى - حاكياً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥]، ولا شك أن أمانة النظارة على الوقف أمانة عظيمة فهي أمانة على ملك الله - تعالى - وهي كبيرة إلا لمن أعانه الله عليها:
ما حُمِّل الإنسان مثلَ أمانةٍ *** أشقَّ عليه حين يحملُها حملا
فإن أنت حُمِّلتَ الأمَانَةَ فاصطبرْ *** عليها فقد حُمِّلتَ مِن أمرها ثقلا(2)
ومن اتقى الله - تعالى - في أداء الأمانة أعانه الله عليها ويسّرها له قال - تعالى -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:٤].
وليتأمل كل ناظر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الخَازِنُ المُسْلِمُ الأَمِينُ، الَّذِي يُنْفِذُ - وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي - مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ»(3) فهنيئاً لمن احتسب الأجر والثواب.
وكم حدّثتنا القصص المتواترة عن نماء بعض الأوقاف وتضاعف قيمتها بسبب وجود ناظر أمين يراقب الله - تعالى - في هذا المال الذي استرعاه الله عليه ومن ذلك:
وقف الحاج رحيم التركستاني في مكة: حيث كان أصل الوقف عام 1307هـ عبارة عن غرفتين فقط، وفي عام 1389هـ أصبح ريعه 300.000 ريال، وفي عام 1416هـ كان الوقف يملك ثلاثة أبراج في مكة ثم حصلت للوقف نقلة كبيرة عندما تولى نظارته أستاذ جامعي فتفرغ له وطوَّر استثماراته، وحوّله لإدارة مؤسسية فأصبح الوقف في عام 1433هـ يملك (11) برجاً في مكة يقدر أحدها ب(400مليون ريال)، وبعد التوسعة الحديثة للحرم أصبحت بعض أبراج هذا الوقف تطل أو قريبة من ساحات الحرم مباشرةً (4).
كما حكى بعض المهتمين في محافظة الرس - إحدى مدن منطقة القصيم - قال وقفت امرأة تسمى عائشة المرشد - رحمها الله - بمحافظة الرس عام 1213هـ قطعة أرض خارج البلد، وجعلت ريع الوقف على محفظي القرآن الكريم، وظل الوقف قرابة مئتي عام لا يعرف، إلى أن أحياه بأمر الله قاضي البلد في حينه (معالي الشيخ عبدالعزيز بن حميّن) – حفظه الله - وبعد توسّع العمران أصبحت الأرض الموقوفة داخل البلد، فبيعت بثلاثين مليون ريال لصالح جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الرس، والآن تقدّر قيمة الوقف بـــ 150 مليونا.
وهذه المرأة - رحمها الله - لم يعرف لها ذرية، ولكنّ نحسب أن صدقها وإخلاصها جعل لهذا الوقف هذه المنزلة، فرحمها الله - تعالى - وأسكنها فسيح جناته(5).
ولو كان النساء كمن فقدنا *** لفُضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ *** ولا التذكير فخر للهلال(6)
وهكذا تتوالى القصص والمآثر عن الأوقاف في سائر بلاد الإسلام ولله الحمد والمنة.
ويستقى من مثل هذه القصص والمواقف جملة من الفوائد والعظات منها:
• أهمية توثيق الوقف وإثباته لدى الجهات المختصة أو الإشهاد عليه وعدم إهماله أو تركه مما يتسبب في ضياعه أو التعدي عليه.
• أن على ناظر الوقف واجبات مهمة، منها: تنمية مال الوقف وأداء ديونه، وتحصيل ريعه، وعمارته وإصلاحه، وحفظ الأصول وثمراتها، والدفاع عن حقوق الوقف وتنفيذ شروط الواقف.
• حمايةً لأصل الوقف وحفاظاً عليه جاءت شريعة الإسلام بمنع الناظر من بعض الأعمال التي قد تضرّ بالوقف كمحاباته لأقاربه أو معارفه وتمكينهم من الإفادة من الوقف وذلك سدّاً للذريعة، كما أنه ليس لناظر الوقف أن يستدين على الوقف، وكذلك أيضاً لا يجوز للناظر أن يرهن الوقف أو أي عين من أعيانه، لأن هذا التصرف قد يتسبب في ضياع أملاك الوقف وتعطيلها.
• وحكى غير واحد من أهل العلم اتفاق الفقهاء على ضرورة صيانة الوقف وعمارته؛ لأجل استمرارية نفعه وأن يكون هذا المصرف مقدماً على جميع المصارف، فعمارة الوقف والمحافظة عليه من أهم أولويات ناظر الوقف، لأنه إذا أُهمل ولم يتم ترميمه وصيانته أدى ذلك إلى خرابه وهلاكه.
لذا فمن الممكن أن يقال: إن من عوامل نجاح الأوقاف أن يتولاها الناظر الأمين الذي يراقب الله تعالى فيما يدع ويذر، وأن يكون ذو دراية وقدرة على تطويرها وإعمارها وإدارتها الإدارة الحكيمة.
_________________________________
(1) الضرورات الخمس هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، واعتبر التعدي عليها جناية وجريمة تستلزم عقاباً مناسباً، وبحفظ هذه الضروريات يسعد المجتمع، ويطمئن كل فرد فيه.
(2) الأبيات للعرجى،وله ديوان مطبوع.
(3) رواه البخاري (1438)، ومسلم (1023).
(4) من مقال بعنوان أوقاف مباركة د.عبدالرحمن الجريوي، الأمين العام لمركز استثمار المستقبل للأوقاف والوصايا (www.estithmar.org).
(5) من مقال بعنوان أوقاف مباركة د.عبدالرحمن الجريوي، الأمين العام لمركز استثمار المستقبل للأوقاف والوصايا (www.estithmar.org).
(6) الأبيات للمتنبي.