استمرار الوقف وعظيمُ أثره
8 صفر 1440
عبد الله بن عبد اللطيف الحميدي

الوقف الإسلامي مشروع لنهضة الأمة، وعودة عزها وقوتها، ومكانتها، وإحياء سنته ونشرها وترسيخها في الأمة هو استئناف لمسيرة الحضارة الإسلامية المجيدة ودفع للأمة إلى منزلة خير أمة أخرجت للناس قال - تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: ١١٠]، فالوقف من خصائص المسلمين، وهو من الإحسان المستمر ومن التنمية المستدامة ويشهد لذلك هذا الحديث النبوي الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»(1).

 

ويجسد هذا الحديث العظيم الأدوار التنموية والإنمائية للوقف وهي كما يلي:
1.    من علم علماً: تنمية علمية وثقافية.
2.    أو أجرى نهراً:تنمية مائية وصحية.
3.     أو حفر بئراً: تنمية بيئية واجتماعية.
4.    أو غرس نخلاً: تنمية غذائية وبيئة.
5.     أو بنى مسجداً: تنمية عبادية وسلوكية.
6.    أو ورّث مصحفاً: تنمية دينية.
7.    أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته: تنمية بشرية (2).

 

وروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: «لم نرَ خيراً للميت ولا للحي من هذه الحُبُس الموقوفة؛ أما الميت فيجري أجرها عليه، وأما الحي فتحتبس عليه، ولا توهب، ولا تورث...»(3).
 

وإليكم هذه القصة الخالدة لزوجة أحد الملوك في العهد الأموي وهي أمة العزيز بنت جعفر بن المنصور الملقبة بـزبيدة (زوجة هارون الرشيد) وغلب عليها لقبها «زبيدة»(4)، وقد نفّذت زبيدة عيناً كبيرة مع مجاريها لأجل أن يستقي منها الحجاج والمعتمرون نفّذتها زبيدة ـ رحمها الله ـ بعد حجها عام 186هـ حيث أدركت في حجّها مدى الصعوبات التي تواجه الحجاج خلال طريقهم إلى مكة من نقص المياه، وما يعانونه من جرّاء حملهم لِقِرَبْ الماء من تعب وإرهاق، وكان الكثير منهم ينقطعون وربما يموتون بسبب ذلك.
 

ولذا أمرت زبيدة بحفر قنوات مائية تتصل بمساقط المطر، فاشترت جميع الأراضي في الوادي، وأبطلت المزارع والنخيل، وأمرت بأن تُشقّ للمياه قنوات في الجبال وتمر على مشاعر مكة (عرفة ومنى ومزدلفة) وجعلت في كل مشعر بئرا تجتمع فيه مياه الأمطار ويَروي منه الناس أيام الحج وغيرها، وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريبًا أي ما يعادل ستة عشر كيلو مترا تمتد من وادي النعمان شرق مكة مرورا بالمشاعر، ولا تزال بقايا آثارها إلى يومنا هذا وإن كانت قد استغنِي عنها مؤخرا بعد إنشاء شبكات المياه الحديثة.
 

وقد وصف اليافعي «عين زبيدة» في القرن الثامن للهجرة أي بعد بنائها بستة قرون فقال:«إنها مشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة ذات بنيان محْكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جدًا، لا يوصل إلى قراره إلاّ بهبوط كالبئر...».
 

لقد أنفقت زبيدة رحمها الله الكثير من أموالها وجواهرها لتوفر للحجاج المياه العذبة والراحة وتحميهم من كارثة الموت، وبعد أن أمرت خازن أموالها بتكليف أمهر البنائين والعمال لإنشاء هذه العين؛ أسرّ لها خازن أموالها بعظم التكاليف التي سوف يكلفها هذا المشروع، فقالت له: "اعمل ولو كلّفتك ضربة الفأس دينارًا،وقيل إنه بلغ مجموع ما أنفقته «زبيدة» على هذا المشروع (1,700,000) مثقال من الذهب(5).
 

فاعمل لنفسك قبل موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثاني
 

وبفعل العوامل الطبيعية فقد تعرّضت عين زبيدة للانقطاع لقلة الأمطار، وطرأ في بعض الأحوال على قنواتها تخريب من أثر السيول، وتوالي الأزمان، وكان الخلفاء والسلاطين الذين تعاقبوا على الحكم في الأقطار الإسلامية إذا بلغهم ذلك تحرّكت هِمَمهم لإصلاح تلك العين التي تتمتع بتلك الهندسة الزبيدية العباسية.
 فرحم الله زبيدة وغفر لها وجعل ذلك في موازين حسناتها يوم القيامة.

 

وفي الوقت المعاصر برزت أيضا إحدى زوجات الملوك وهي المرأة الصالحة الأميرة العنود بنت عبدالعزيز بن جلوي وهي زوجة الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمهما الله - حيث كتبت وصيتها في عام 1387 هـ وعمرها آنذاك سبعة وعشرون عاما، وجاء في نص الوصية: «وأوصت بثلث مالها أن يجعل في بيت مناسب من بلد الرياض يكون في غلته أضحية واحدة لها ولوالديها والباقي من الغلّة بعد الأضحية يصرف في وجوه البر وأعمال الخير كالصّدقة على الفقراء من الأقارب وغيرهم وعمارة المساجد وتعليق قرب الماء في المساجد في أوقات الحاجة إلى ذلك وصناعة الطعام للفقراء في رمضان وغيره حسب مايراه الوكيل، وغير ذلك من وجوه البر» وقد حرر وصيتها ـ رحمها الله ـ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح الجنان.
 

وقد بارك الله في هذه الوصية وتولاها الأكفاء من النظار والإداريين ونشأت عنها مؤسسة من أعظم المؤسسات الخيرية ثم أنشئ لدعمها فرع للاستثمار يشرف على العقارات الموقوفة وينميها حتى أصبحت هذه المؤسسة شامة في جبين العمل الخيري في المملكة العربية السعودية، وأصبح لهذه المؤسسة استثمارات ضخمة تدرّ على الأعمال الخيرية التي تشرف عليها مثل رعاية حلقات تحفيظ القرآن الكريم ومدارسه ونشر العلم الشرعي والتدريب للجهات الخيرية وسقي الماء والمبادرات الشبابية ورعاية التطوع ونحو ذلك من الأعمال المميزة التي تقوم بها هذه المؤسسة الرائدة في عمل الخير(6).
 

ويستقى مما مضى جملة من الفوائد والعظات منها:
•    المبادرة بفعل الخير واحتساب الأجر من الله - تعالى - وعدم التواني أو التأخير والتسويف.

 

•    العناية بكتابة الوصية الشرعية والمبادرة إلى ذلك ولو كان الإنسان صغيرا في السن فإنه لا يدري ما يعرض له، قال ابن الجوزي رحمه الله: «إياك والتسويف، فإنّـه أكــبر جنـود إبليس»(7).
 

•    ومنها استشارة أهل العلم والفضل في صياغة وثيقة الوقف أو الوصية وتحريرها والإشهاد عليها فإن ذلك أدعى لحفظها والعمل بها.
 

•    ومنها دور العمل المؤسسي في نجاح الأوقاف، وأنه من أكبر العوامل المساعدة على تنظيم العمل وجودة تنفيذه ومن ثم رؤية الثمار اليانعة له.
 

•    ومنها أهمية الاستثمار في الأموال الوقفية وتدويرها وتحريكها وتنميتها وفق ضوابط احترازية تحفظ أصل المال وتنمي الريع كي يستمر النفع والعطاء.
 

__________________________________

(1)أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/390)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: 3602.
(2) حلقات إذاعية د.عيسى القدومي ص 68.
(3) ذكره الخصاف في «أحكام الأوقاف»، فيما رُوي في صدقة زيد بن ثابت، (ص12)، وفي كتاب «الإسعاف في أحكام الأوقاف»، إبراهيم الطرابلسي، (ص 9)، وسنده ضعيف.
(4) ينظر: تاريخ بغداد (433/14)، الأعلام لخير الدين الزركلي(3/42).
(5) ينظر: مرآة الجنان لليافعي (ج2،ص 48)، بتصرف.
(6) للاستزادة ينظر: امرأة استثنائية زوجة ملك، للدكتور /يوسف بن عثمان الحزيم.
(7) صيد الخاطر، لابن الجوزي ص1/206.