مشكل ما روي في تكرار النساء الحج
20 ذو القعدة 1439
د. خالد بن سليمان المهنا

بسم الله الرحمن الرحيم

مشكل ما روي في تكرار النساء الحج (*)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله: الحج، حج مبرور، فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وعن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أذن عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما (2).

يشكل عليهما حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحصر (3)"(4).

وجه الاشكال: أن في حديث عائشة دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب النساء إلى تكرار الحج، وذلك ظاهر من فهم عائشة إذ قالت: فلا أدع الحج بعد اذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني بذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور" لأن فيه دليلا على أن جهادهن الذي هو الحج، لا ينقطع كما لا ينقطع جهاد الرجال، ولذلك خرج أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم حواج في زمن عمر كما في حديث إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهذا خلاف ما دل عليه حديث أبي واقد، فإن ظاهره يدل على منع نسائه –بعد حجهن معه- من الحج. أقوال العلماء في اثبات الاشكال. قال الطحاوي: باب بيان مشكل ما روي عن رسول صلى الله عليه وسلم من قوله لنسائه بعد حجة الوداع: (هذه الحجة ثم ظهور الحصر) (5).

اختلاف دلالتي الأحاديث.

دراسة الإشكال وبيان الراجح من الأقوال في دفعه: سلك أهل العلم لدرء الاشكال عن الأحاديث السالفة مسلكي الجمع والترجيح، وفيما يأتي بيان ذلك.

أولا: مسلك الجمع: ولهم فيه وجهان:

الوجه الأول: أنه يحتمل أن يكون نهي نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن تكرار الحج متقدما، وندبهن إليه كان متأخرا، ووقف على الندب عائشة ومن سواها، ولذلك قالت: فلا أدع الحج بعد اذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحججن، ولم تقف زينب ولا سودة الندب فلزمن النهي، ولذا قالتا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (6).

الوجه الثاني: الجمع بين حديثي الإذن بتكرار الحج وحج أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حديث النهي، بحمل حديث النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: (هذه ثم ظهور الحصر) على أن المراد به أنه لا يجب عليهم غير تلك الحجة لا المنع من الزيادة عليها، ولذلك حج أغلب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده. قال البيهقي: "في حج عائشة رضي الله عنها وغيرها من امهات المؤمنين رضوان الله عليهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة على أن المراد من هذا الخبر وجوب الحج عليهن مرة واحدة كما بين وجوبه على الرجال مرة لا المنع من الزيادة عليه. والله أعلم. (7).

وقرر ابن حجر هذا المعنى فقال: والعذر عن عائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على أن المراد بذلك أن لا يجب عليهن غير تلك الحجة، وتأيد ذلك عندها بقوله صلى الله عليه وسلم: (لكن أفضل الجهاد الحج والعمرة) ومن ثم عقبه المصنف بهذا الحديث في هذا الباب، وكأن عمر رضي الله عنه كان متوقفا في ذلك، ثم ظهر له الجواز فأذن لهن، وتبعه على ذلك من ذكر من الصحابة ومن في عصره من غير نكير،.).(8).

وقال أيضا في سياق شرح حديث عائشة: (... لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور) "وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج اباحة تكريره لهن كما أبيح تكرير الجهاد وخص به عموم قوله: (هذه ثم ظهور الحصر) وقوله تعالى: "وقرن في بيوتكن" وكأن عمر كان متوقفا في ذلك ثم ظهر له قوة دليلها فأذن لهن في آخر خلافته، ثم كان عثمان بعده يحج بهن في خلا فته أيضا، وققد وقف بعضهن عند ظاهر النهي كما تقدم...." (9)

ثانيا: مسلك الترجيح:

ويتم الترجيح حديثي الإذن في تكرار الحج على حديث أبي واقد (هذه ثم ظهور الحصر). وهو مسلك الذهبي إذ قال وذكر حديث أبي واقد: "وهذا منكر، فما زلن يحججن"(10).

وهو متعقب بما تقدم من ثبوت الحديث، وبأن حديث إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف دليل على أن عمر كان قد منعهن حتى كان آخر حجة حجها فأذن لهن، فإن سياق لفظه يشعر بالمنع قبل الإذن (10)، وهو كالشاهد لحديث أبي واقد، إذ كان عمر مستحضرا عدم الإذن لهن حتى قوي عنده دليل عائشة، إلا أن يرد احتمال أن منعهن لم يكن لحديث: (هذه ثم ظهور الحصر) بل بعموم نهي المرأة عن السفر بلا محرم، فله موضع آخر. الراجح: الأقرب -والله تعالى أعلم- أن الإشكال يندفع بالجمع بين الأحاديث، وذلك بحمل حديث أبي واقد (هذه ثم ظهور الحصر) على أن المراد أنه لا تجب عليكن ولا يلزمكن إلا هذه الحجة، كما قرر البيهقي ووافقه ابن حجر، وذلك أن في إذن عمر رضي الله عنه لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، وموافقة عثمان وعبد الرحمن بن عوف له من غير نكير من الصحابة أن في ذلك صارفاً لحديث أبي واقد عن ظاهره، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه -رضي الله عنهم وعنهن- لا يخالفون أمره، فلذلك فهم من أذن لهن وفهم من حج منهن أن الحديث ليس على سبيل الحتم والوجوب، ومن امتنع منهن من الحج فهم منه الحتم والإلزام.

والله تعالى أعلم.

____________

(*) مأخوذ مع الشكر من كتاب د. خالد بن سليمان المهنا، الموسومة بـ مشكل أحاديث المناسك.

(1) أخرجه البخاري في الحج، باب حج النساء (4/86/1861) عن مسدد عن عبد الواحد عن حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنهما.

(2) أخرجه البخاري في الحج، باب حج النساء (4/86/1860) عن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده.

(3) قال ابن الطبري: قوله: ".. ثم ظهور الحصر.." معناه: ثم لا تخرجن من بيوتكن وتلزمن الحصر، القرى ص 74

(4) أخرجه أحمد (5/218) وأبو داود في الحج، باب فرض الحج (2/238/1722) وأبو يعلى (3/32/1444) والطبراني (3/252)، والبيهقي (4/327) من طرق عن عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن أبي واقد الليثي عن أبي واقد رضي الله عنه..... الخ (يراجع للتفصيل أصل الكتاب ص 585). فالحديث صحيح بمجموعه. والله أعلم.

(5) شرح المشكل (3/361)

(6) معنى جواب الطحاوي في شرح المشكل (3/365).

(7) السنن الكبرى للبيهقي (4/327).

(8) فتح الباري (4/88).

(9) فتح الباري (4/89).

(10) ميزان الاعتدال (4/330).

(11) ينظر: القرى ص 74.