فضيحة قانون الطفل !
18 رمضان 1429
د. محمد يحيى
تفجرت في مصر في الفترة الأخيرة فضيحة دارت حول قانون الطفل الصادر هناك منذ حوالي الشهر حيث أذاعت إحدى الكنائس التبشيرية الأمريكية تقريرًا نسبت فيه لنفسها المشاركة مع بعض الجهات والمسئولين في مصر عن إعداد بعض فقرات هذا القانون ولاسيما ما يتعلق منها بالنص على رفع سن الزواج وتجريم ختان الإناث وملاحقة الأهل المتهمين بضرب أطفالهم ملاحقة قانونية حتى ولو كان هذا الضرب على سبيل التأديب ولا يتعداه إلى إلحاق الأذى الجثماني أو لا يتعدى حدود التعنيف.
وكانت هذه النصوص قد أثارت ردود فعل شعبية رافضة في البلاد حيث أثارت أحداث عدة ـ وليس فقط من بين دوائر علماء الدين بل شملت الثورة أحيانا من علماء الاجتماع والدوائر الشرطية المختصة بالأحداث والآداب وغيرهم ـ إلى أن رفع سن الزواج في ظل وصول مبكر إلى النضوج في مصر للإناث بالذات هو بمثابة إشعال لفتيل انتشار إباحي واسع المدى كما أشار البعض إلى أن كف السلطة الأسرية عن الأبناء سوف يؤدي إلى انهيار التناسل الأسري.
وبصرف النظر عن المعارضة الواسعة لهذا القانون أو لبعض نصوصه إلا أن الكشف عن دور الكنيسة الأمريكية في وضع بعض تلك النصوص قد أدخل عنصرًا جديدًا إلى المسألة لأنه أكد شكوكًا كانت متداولة منذ سنين طويلة حول تدخل مباشر لهيئات أجنبية في وضع وتعديل القرارات المعمول بها في مجالات تستند إلى الاقتصاد والسياسة إلى القضايا الاجتماعية الخاصة مثل الأحوال الشخصية وتنظيم أو تحديد النسل والتعليم وأوضاع المرأة وما أسمى بتمكين المرأة.
وقد بدأت هذه التداخلات بأشكال وحجج مختلفة، ففي خلال فترة السبعينيات كان تغير العديد من القوانين واللوائح الاقتصادية يمر عبر الحديث عن سياسة الباب المفتوح والتحرر الاقتصادي وكان التدخل في تلك الفترة ينسب إلى توصيات بعض المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وإلى توصيات أو اقتراحات بعض الجهات الأمريكية مثل هيئة المعونة الأمريكية على خلفية العلاقات الناشئة مع الولايات المتحدة.
أما في أواخر السبعينيات وعلى خلفية معاهدة السلام مع "إسرائيل" وعندما بدأ الحديث عن تعديلات في المناهج المدرسية أو البرامج والمحتويات الإعلامية فقد تحول إصبع التشكيك في التدخل الأجنبي إلى الأولوية التي اكتسبتها المعاهدة مع "إسرائيل".
غير أن الأمر اكتسب خطورة خاصة وبروزًا كبيرًا بدءًا من أواسط الثمانينات وتواكب ذلك مع أمرين مهمين:
أولهما: ظهور وتبلور التوجهات العلمانية والتغريبية لبعض الدوائر المتنفذة في الحكم
وثانيهما: هو بدء الموجة الهائلة لعملية العلمنة والتغريب التي قادتها الأمم المتحدة وبها سائر مجالاتها وهيئاتها الدولية تحت مسمى مؤتمرات السكان والصحة الإنجابية، وتمكين المرأة وما شابه، والتي استغلت الغطاء الدولي سواء من الناحية المعنوية أو القانونية ليس فقط لتمرير سياسات علمانية ولكن لتعديل وتغيير القوانين.
وهكذا نرى سياسات التدخل في التشريعات والقوانين منذ السبعينات والجهات والأسباب التي وقفت ورائها ونلاحظ أنه منذ فترة منتصف الثمانينات بالذات كان هذا التدخل الخارجي في وضع التشريعات والقوانين على أشده.
وبينما كانت الجهة التي تبدو في الظاهر مسئولة عن تلك التدخلات هي الأمم المتحدة ووكالاتها وما يعرف باسم المؤسسات الدولية إلا أنه وقفت من خلفها ومنها بشكل واضح بل ودخلت إلى الصدارة بعد ذلك المؤسسات والجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التابعة لأمريكا ولدول أوروبا الغربية كما ظهر دور العديد مما كان يسمى في وقتها بمؤسسات المجتمع المدني أو المؤسسات غير الحكومية في الغرب.
وكان واضحًا أن كل هذه الجهات لم تعد تهتم أو تشتغل بالأعمال الخيرية أو الإنمائية أو أعمال المساعدة الفنية التكنولوجية قدر انشغالها بإنفاذ وعمل أجندات وخطط وبرامج وأهداف وسياسات تعمل على تغيير وضع المجتمع المسلم ليس فقط في البلاد العربية وإنما في سائر أنحاء العالم.
وإذا كانت خطط الهجوم على المجتمع الإسلامي هذه قد شملت شتى جوانب المجتمع إلا أن الجانب القانوني والتشريعي على وجه الأخص كان له أو عليه الاهتمام الأكبر وبالذات تجاه تغيير الجوانب الباقية في الشريعة الإسلامية في تلك القوانين وهو ما كان يعني أن ينصب التركيز بطبيعة الحال على قوانين الأسرة والأحوال الشخصية وما يحيط بها من قوانين أخرى ذات صلة.
وهكذا شهد ربع القرن المنصرم ليس في مصر وحدها ولكن في سائر البلدان العربية، مثلاً: موجة من التعديلات في قوانين الأحوال الشخصية كان القاسم المشترك الأكبر فيها هو إسقاط الأحكام الشرعية الإسلامية منها وإحلال أحكام وقيم غربية محلها بحجج منها العنصرية والتحديث والإصلاح ومواكبة العصر وما شابه، وكان من اللافت للنظر أن القوى التي تزعمت هذه العملية تلجأ إلى أشكال من الخداع والتخفي لتتوسل بذلك إلى أغراضها بحيث يقال أن هناك مشاكل ـ وهمية في معظم الأحوال أو حقيقية لكن حجمها يضخم إلى حدود خيالية ـ وأن التعديلات الجديدة تأتي لكي تنقلب عليها وتحلها كما كان القائمون على التعديلات يتعمدون خلق عملية من الارتباك والاهتزاز في القوانين الأسرية تجعلها في حالة من الغموض أو الإشكال مما يسوغ الدعوة إلى إلغائها كلية وإحلال قوانين علمانية تغريبية تمامًا محلها.
كذلك كان من أساليب الخداع في هذا الصدد الزعم بأن التعديلات الجديدة إنما جاءت لكي تعمل اجتهادات إسلاميه أصلية.
وبصرف النظر عن أساليب الخداع هذه وجوانبها الكثيرة إلا أن الصورة العامة التي جرى بها إدخال شيء للتلاعب بالقوانين العائمة ولا سيما في مجال الأسرة كانت توحي بأن القائمين عليها هم من الدوائر العلمانية والتغريبية المحلية مع عدم وجود تدخل أجنبي مباشر حتى مع الإقرار بأن الدوائر المحلية تستلهم الخارجي الأمريكي والأوروبي لكن هذه الصورة تغيرت إلى حد جوهري مع وافد جديد على ساحة العمل الاجتماعي في مصر والدول العربية والإسلامية.
جاء هذا الوافد في أوائل التسعينيات ليقلب معادلة الحديث حول التدخل الأجنبي في صيانة وتعديل القوانين والتشريعات القائمة ومنها ما يدخل في باب أحوال الأسرة بل ومعظمها له علاقة بأحكام الشريعة الإسلامية في مجالات تمتد من الزواج والطلاق إلى قضايا الاقتصاد والحكم.
وكان هذا الوافد الجديد هو ما أطلق عليه اسم علم جماعات ومنظمات وروابط حقوق الإنسان.
كان أهم ما جلبه هذا الوافد الجديد إلى الساحة هو طرح قضية التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية للبلدان العربية والإسلامية على بساط البحث بشكل واضح وحاسم بحيث أصبحت موضع النقاش والهجوم أو الدفاع.
وكان ذلك سبب ربما بدا غريب أو من سوء حظ تلك المنظمات، ذلك أن السلطات المسئولة والتي أصبح للدوائر العلمانية نصيب كبير في إدارتها وتوجيهها أو على الأقل توجيه النصح والمشورة لها لم تكن تبدي كبير اهتمام أو مبالاة بالتدخلات الأجنبية الموجهة لزعزعة الأوضاع الإسلامية التشريعية والقانونية في مجالات عديدة بعيدًا عن مجالات السلطة والحكم.
ولكن عندما بدأت هذه الجماعات وتحت مسمى حقوق الإنسان بمعناه الواسع تقترب من تلك الدوائر بالحديث حول السياسات الآنية والاعتقالات والتعذيب، وحول تشدد قوانين العقوبات (حسب تصوري بالطبع) وحول ضرورة مراعاة الحقوق الإنسانية والسياسية والاقتصادية والقانونية للناس وما شاكل ذلك ـ هنا شعرت الدوائر ذات السلطة حتى ما يميل منها إلى الخارج ولا يجد غضاضة بل يقبل على شتى القيم الغربية تستشعر بالقلق لمجرد أن ذلك التدخل الأجنبي الذي كان موجهًا فيما سبق إلى جوانب لا تهتم تلك الدوائر بها بل على العكس تهتم بضربها إلى جوانب تمس مباشرة بقاء تلك الدوائر وسلتطها المهيمنة.
وفي محاولة تلقائية من الدوائر العلمانية والتغريبية للدفاع عن نفسها سارعت إلى شن حملة على الوافد الجديد حتى على الرغم من أنه من أبناء جلدتها الفكرية وعلى الرغم من أن هذا الوافد يتمتع بدعم نفس الدول والمؤسسات الغربية التي تدعم تلك الدوائر ذاتها.
وفي إطار هذه الحملة التي شنت من جانب الأجهزة السياسية والإعلامية الجبارة في البلدان العربية والإسلامية برزت إلى العلن قضية الدعم المادي والمعنوي والسياسي وسائر أشكال الدعم التي توجهها الدول والمؤسسات الغربية إلى منظمات حقوق الإنسان، ومنها بالتبعية المنظمات المشابهة العاملة في الحقل المدني، وعلى مدى ما يقارب العقد من الآن أصبح الحديث يدور حول الأموال التي تتدفق على تلك المنظمات لجعلها تقوى على العمل ضد البلدان التي تعمل فيها وهز أوضاعها وتغيير قوانينها وقلب أنظمة الحكم فيها.
هنا فقط ثبت للجميع ومن خلال إعلان الحكومات ومن لف لقرارات هناك بالفعل تدخل أجنبي قائم ومحقق وجسيم في عمليات متعددة داخل البلدان العربية الإسلامية ومنها عملية التشريع والقوانين كما ثبت حسب أقاويل الحكومات أن هذا التدخل يتبع أجندة تخدم مصالح القوى الداعمة له، ومن هنا انفتح الباب أمام التيارات الفكرية الوطنية والإسلامية لكي تتحدث عن تدخل أجنبي ليس في مجال الحكم والسلطة ولكن في مجال أكثر أهمية وهو مجال تكريس التبعية للغرب والإلحاق بعملة الدولة وسيطرة القيم الغربية والعلمانية والمسيحية والصهيونية على العالم.
وهكذا كان وفود منظمات حقوق الإنسان إلى ساحة العمل الاجتماعي في البلاد العربية مع أوائل التسعينيات المناسبة مؤديا إلى كشف ظاهرة التدخل الأجنبي في وضع التشريعات والإتجاهات والقيم في تلك الدول، وقد جاء هذا الكشف مع شعور الحكومات في دول عدة بالقلق من أن نشاطات وتدخلات تلك المنظمات كانت مدعومة من قوى أجنبية وأنها أخذت تغادر المناطق المسموح فيها بحدوث التدخل الأجنبي في التشريع والمجتمع على إطلاقه ـ وهي مناطق إنتزاع جذور وينابيع الوجود الإسلامي ـ لكي تدخل في مناطق محرمة وفق رأي الدول لأنها تتصل بالسلطة السياسية.
لكن قيام الحكومات في موجة الدفاع عن نفسها كشف التدخلات الأجنبية من خلال منظمات حقوق الإنسان أو في الواقع إلى كشف سائر أنواع التدخل الأجنبي السافر المباشر وغير المباشر في صياغة القوانين تحقيقًا لأهداف العلمنة والتغريب.
ذلك لأن قسمًا كبيرًا من تلك المنظمات ومعها تيار آخر عريض وفد في نفس الفترة وبنفس الدعم الأجنبي المادي والسياسي كانت قد أخذت تركز نشاطها على المجال الاجتماعي والقيمي بعيدًا عن المجال السياسي، وأقصد بالوافد الجديد على دنيا العمل الاجتماعي والقانوني والثقافي والإعلامي والذي انتزع بالتدريج مجال الفعل من منظمات حقوق الإنسان وحاز على رضا الحكومات ما عرف باسم جمعيات حقوق المرأة أو تحرير المرأة وما شابه من أسماء.
وللحديث عن هذه الجمعيات مجال تفصيلي آخر لكنها حسب اهتمامنا الراهن كانت ومازالت تمثل النموذج الأقوى والأخطر والأشهر لعملية التدخل الأجنبي المباشر في عمليات التشريع في العالم العربي فيما يخص ليس فقط أوضاع الأسرة وإنما كذلك أوضاع القيم الاجتماعية العامة.

إن التدخل الأجنبي المباشر ذا الأشكال المتعددة وأبرزها التمويل وذا الأهداف المحددة وأولها بسط نطاق العلمنة والتغريب والعامل في ميدان القانون والتشريع من خلال مجموعة من الدوائر المتحلقة حول ما أسمي بتحرير أو تمكين أو حقوق المرأة هو الذي أوصل الأوضاع إلى فضيحة قانون الطفل في مصر حيث تعلن كنيسة أمريكية مباشرة وصراحة عن أنها شاركت في وضع بنود هذا القانون، لكن الوصول إلى هذه النهاية وأولها وعبر الدوائر المنسوبة بدأ بتدخلات المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وغيرها ثم انتقل إلى التمويل المقدم من هيئات ومنظمات أهلية وحكومية في تلك الدول وأخيرًا وصل إلى أن يتم تقديمه من جانب هيئات كاثوليكية وبروتستانتية مختلفة كان من الغريب أن تقدم تمويلاً ودعمًا لأفكار وجمعيات تنصيرية تعمل أولاً في دعم الفكر العلماني كما تعمل وهو الأهم في ميدان يفترض أنه لا يتعايش مع إن لم يكن يناقض المفاهيم الدينية والمسيحية منها، لكن كان الدعم الكنسي لهذا النشاط النسوي مفهومًا لاعتبارات عدة أبرزها أن التيار النسوي في البلاد العربية وبصرف النظر عن تفاصيل طروحاته كان يعمل في الأساس لنشر فكر التبعية التامة للغرب في شتى المجالات ولا يجب أن ننسى أننا نقع في دائرة هجمة أوروبية غربية طاحنة كما أن الكنائس الغربية تنظر إلى نفسها على أنها هي أساس الحضارة الغربية وعمادها الفكري معتبرًا أن ما جاء بعد ذلك من مذاهب فكرية ما هو إلا شذوذ عنها أو تضليل لما جاء فيها مجملاً ..