أسس السياسة الشرعية (4) المصالح المرسلة / 3

الاستدلال بالمصالح المرسلة وضوابطه

جاء في ختم الحلقة السابقة أنَّ الاستدلال بالمصالح المرسلة ليس أمراً هيناً ، ولا هو بالمركب السهل ؛ وليس هو حقّاً لكل أحد ؛ إذ هو من أضنك مواقع الاجتهاد ، وأحراها بما يشترط في أهله من شروط دونها خَرْطُ القتاد .
وبيان ذلك أنَّ للمصلحة جانب نظر عقلي ، وهي كما مرّ طريق استدلال لا مصدر الحكم ، ومن ثم فإنَّ دور العقل فيها لا يصح ولا يجوز أن يكون معارضا لمصدري التشريع الإسلامي ( الكتاب والسنة ) ، وإنَّما تنحصر وظيفته في أمور من مثل :
1) فهم النص الشرعي ، والبحث في مقاصد المصالح التي روعيت فيه أو به .
2) استنباط الأحكام من النصوص ، بناء على ما تم الوصول إليه من العلل المعتبرة والمقاصد المشروعة .
3) تنزيل الأحكام على الواقع بتحقيق مناطاتها فيه .
4) الاجتهاد المستند إلى ضوابط الشرع فيما ليس فيه نص معين .
5) النظر في المآلات المستقبلية ومراعاتها أثناء النظر في الأحكام .
وهكذا كل أمر يخدم الأحكام أو القرارات مما لا يعود على النص الشرعي أو التقعيد الكلي بالإبطال .
وهذا كله يقتضي وجود شروط في ولي الأمر أو من يستند إليه ولي الأمر في تنفيذ الأحكام ورعاية المصالح . وهذا ما أكَّده عدد من العلماء المحققين ، وحذَّروا من تجاوزه .
قال القرافي _رحمه الله_ : " فإنَّ مالكاً يشترط في المصلحة أهليّة الاجتهاد ؛ ليكون الناظر متكيفاً بأخلاق الشريعة ، فينبو
عقله وطبعه عمَّا يخالفها ، بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول ، فيكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة ، فيهجم على مخالفة أخلاق الشريعة من غير شعور " .
وقال ابن بدران _عليه رحمة الله_ : " والمختار عندي اعتبار أصل المصالح المرسلة ، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها
يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق " .
و قال الشنقيطي _رحمه الله_ : "… ولكن التحقيق : أنَّ العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة ، وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مساوية لها ، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال " .
وقال أيضاً : " … لكن يجب في هذه المسألة كما حققه غير واحد من المحققين أن ينتبه للنظر في مآلات الأمور
وعواقبها ، فلا يحكم المجتهد على فعل من أفعال المكلفين بالإقدام عليه أو الكف عنه إلا بعد نظره فيما يؤول إليه ، فربما يظهر في فعل أنه مشروع لمصلحة تستجلب أو منهي عنه لمفسدة تنشأ عنه لكن مآلـه خلاف ذلك .
واعلم أنَّ التحقيق أن المصلحة المذكورة تنخرم باستلزامها مفسدة راجحة عليها أو مساوية لها … " .
ثم هو مزلّة قدم للمبتدع في الدين ، وهاوية ذمم للمقننين والسياسيين - نسأل الله العافية والسلامة - وقد نبه إلى ذلك بعض أهل العلم .

وأمثلة المصالح المرسلة في الجملة كثيرة جدا ، ومنها : كل مستحدث عصري ينتفع به الناس من التنظيمات والتراتيب
الإدارية ، مما لم يرد فيه دليل نصي و لا يخالف الشريعة الإسلامية . كسن الأنظمة المصلحية ، وهيكلة الدوائر الحكومية ، فتنظيم أمور التقاضي ، وتصنيفات الموظفين ، وتقدير رواتبهم ، ونحوها ، هي في الحقيقة أمثلة لإعمال المصالح .
بل إن مدار بقية طرق الاستدلال هو في الحقيقة على قاعدة المصالح المعتبرة دون غيرها مما هو مُتَخيّل أو موهوم .
ومن هنا نبَّه بعض الأصوليين إلى أنه لا توجد مصلحة لم يثبت لها علاقة اعتبار شرعية ، لا بدليل خاص ولا عام . وهي التي توصف عند الأصوليين بأنَّها غير ملائمة ، وقد يُعَبَّر عنها بالمناسب الغريب . فهذه " في حكم المصلحة الملغاة ؛ إذ ليس إهمال هذا النوع من الاعتبار إلَّا دليلاً على أنّه في حكم الملغي ، وإلا لكان النّاس متروكين سدى ، وهذا ما قامت النصوص الشرعية على نفيه " (1)
وَقد مثّل بعض الأصوليين لهذا النوع : بحرمان القاتل من الميراث لو لم يرد فيه نص ، لمعارضتـه بنقيض قصده . وهذا المثال افترضه الغزالي ، وتبعه فيه الشاطبي ؛ لأنَّه افتراض اقتضته القسمة العقلية ، لا وجود له في الواقع .
ولهذا قال أبو حامد الغزالي : " فأمَّا المناسب الغريب الذي لا يلائم ، ولا يشهـد له أصل معين ؛ فهو مردود ، لا يعرف فيه خلاف " (2) ، وقال : "… فلا يقبل قطعاً عند القائسين ، فإنَّه استحسان ووضع للشرع بالرأي" (3) ؛ بل يمكن القول إنَّ هذا النوع من المصالح وهميٌّ فرضيٌّ ، لا وجود له في الواقـع ؛ لأنَّه ما من مسألة تفرض إلَّا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالردِّ ؛ إذ من المسَّلم استحالة خلو واقعة عن حكم الله _تعالى_ (4) .
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي : " ما لم يدل عليه دليل خاص ولا عام لا يصح أن يكون حكما شرعياً " (5) .
وعلى كلٍّ فهذه الحال كالقِسْم الملغى ، مطَّرَحة غير معتبرة بالإجماع ؛ بل لا وجود لها في الواقع .
وللمصالح اتصال وثيق بفقه الموازنة الشرعية بين درجاتها ، وبينها وبين المفاسد ، ودرجاتها .
وقد قعّد العلماء لفقه الموازنة هذا عند التزاحم (6) ، بقواعد وضوابط تنتظم الموازنة بين المنافع ، والموازنة بين المفاسد ، والموازنة بين المنافع والمفاسد ، منها : قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح . وقاعدة : الضرورات تبيح المحظورات . وقاعدة : يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام . وقاعدة : يُحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد . وقاعدة : إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ومثّل له بعض علماء السياسة الشرعية بمشروعية القتال مع الفاسق لإقامة ولايته دفعا للأفسد .
ويُجري الفقيه الموازنة بالنظر من أوجه منها على سبيل المثال : مدى التحقق : قطعيّة أو ظنيّة أو وهميّة ، ومدى الشمول : عامة أو خاصة ، ومدى الأهمية : ضرورية أو حاجية أو تحسينية .
ولهذه القواعد معايير تضبط إعمالها ، منها على سبيل التوضيح :
- إذا تعارضت المصلحة الضرورية مع الحاجية أو التحسينية ، قُدِّمت الضرورية لأنها أكثر أهمية .
- إذا تعارضت مصلحة حماية الحياة مع حماية مصلحة المال ، قُدِّمت مصلحة حماية الحياة .
وهذه القواعد والمعايير الشرعية مراعاة في كثير من القوانين الوضعية أيضا .

ولقاعدة المصالح في الجملة صلة قوية بقواعد المقاصد ، وسيتم التعرض له _إن شاء الله تعالى_ في تطبيقات السياسة الشرعية عند العلماء .
وأختم الحديث عن المصلحة ببيان علاقتها القوية بالسياسة الشرعية " فإنَّ السياسة الشرعية هي المجال الذي يضفي الطابع العملي أو التطبيقي على المفهوم الأصولي للمصلحة ... إضافة إلى كون المصلحة أداة استدلالية في بناء الحكم الفقهي " (7) على مرّ من بيان .
----------------------------
(1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 254-255 .
(2) شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ، لأبي حامد الغزالي : 188 ، مطبعة الإرشاد : بغداد .
(3) المستصفى : 2/313 ؛ وينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 2/ 115، بعناية الشيخ / محمد رشيد رضا ، المكتبة التجارية الكبرى : مصر .
(4) ينظر : المنخول من تعليقات الأصول ، للغزالي : 460 ، ط3-1419، ت/ محمد حسن هيتو ، دار الفكر المعاصر و دار الفكر : بيروت ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ،لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 255 .
(5) رحلة الحج إلى بيت الحرام ، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي :181 ، ط1-1403 ، دار الشروق :جدة .
(6) من المراجع التي عالجت هذه القضية إضافة إلى جملة ما كتب في علم القواعد والأصول ، اطروحة علمية في قسم أصول الفقه بجامعة بغداد ، لنيل الدرجة العلمية العالية ، بعنوان : الموازنة بين المصالح دراسة تطبيقية في السياسة الشرعية ، د. أحمد عليوي حسين الطائي . وقد أفدت منها في هذه المسألة .
(7) المصلحة العامة من منظور إسلامي ، د. فوزي خليل :123 .