من مقاصد الحج الغائبة
6 ذو الحجه 1440
د. عامر الهوشان

كثيرة هي مقاصد الحج وحكمه التي أراد الشارع الحكيم تحقيقها من خلال أداء مناسك الركن الخامس من أركان الإسلام , ولا يمكن بأي حال من الأحوال استقصاء وإحصاء هذه المقاصد في هذه العجالة ..

 

فأهداف ومقاصد الحج العقدية المتمثلة بتوثيق عبودية الحجاج للإله الواحد سبحانه لا شريك له , والتربوية كذكر الله وتذكير الناس بالآخرة وتربية النفس على الصبر والتزام النظام , والاجتماعية كترسيخ مبدأ المساواة بين الناس وعدم التفاضل فيما بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح ..

 

وحتى الاقتصادية من خلال إباحة تبادل المنافع بين المسلمين في موسم الحج بقوله تعالى : {  لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ .... } الحج/28 , وقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ...} البقرة/198 .

 

إلا أني أردت التركيز في هذا المقال على أهم مقصد من مقاصد الحج الغائبة في هذه الأيام , ألا وهو مقصد التأكيد على مبدأ "وحدة هذه الأمة" وتضامنها تحت شعار دين الله الجامع لا سواه .

 

إن اجتماع المسلمين من حجاج بيت الله الحرام في مكان واحد وعلى صعيد واحد , وأدائهم نفس المناسك والشعائر , بلباس واحد ونداء واحد , وتوجههم بهذه العبادة والشعيرة إلى إله واحد , واتباعهم سنة نبي واحد صلى الله عليه وسلم ....... مؤشر واضح على وحدتهم تحت لواء دين الله الإسلام .

 

لقد جربت الدول العربية والإسلامية منذ انهيار الخلافة العثمانية وحتى الآن رفع شعار القومية العربية طريقا وسبيلا للوحدة بين الدول العربية , فكانت النتيجة المزيد من التفرق والتشرذم , والمزيد من الخلافات والانقسامات , رغم أن نطاق تحقيق هذا الشعار مقتصر على 22 دولة فقط !!

 

إن أداء المسلمين لفريضة الحج في كل عام يذكرهم بأنهم أمة واحدة , وينبههم إلى حقيقة واضحة وضح الشمس في رابعة النهار , ألا وهي أن الإسلام هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هذه الوحدة المنشودة , و أن بقية الولاءات والشعارات كالقومية وما شابه لا يمكن أن تحقق إلا المزيد من الفرقة والانقسامات .

 

إن من يقرأ قوله تعالى  : { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } المؤمنون/52 , يدرك جيدا هذه الحقيقة , ومن ينظر إلى جموع الحجيج في كل عام , وهم يتوافدون من كل فج عميق إلى هذا البيت العتيق , يوقن أن دين الله الخاتم هو وحده الكفيل بعودة هذه الأمة إلى وحدتها التي هي مصدر عزتها , رغم اختلاف اللغات والأوطان والألوان

 

ولعل ما دفعني للتذكير بهذا المقصد العظيم من مقاصد فريضة الحج هو : غياب تحققه على مستوى الحكومات والدول الإسلامية , رغم تحققه على أرض الواقع في موسم الحج من كل عام , و رغم حاجة المسلمين الملحة لهذا المقصد في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها الأمة الإسلامية , ورغم التوجيهات القرآنية والنبوية التي تحذر من الفرقة وتدعو للوحدة .

 

لقد دعا كتاب الله إلى الوحدة في أكثر من موضع , كما حذر من الفرقة والتشرذم وبين نتائجه الوخيمة في مواضع أخرى , قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ...} آل عمران/103 , وقوله تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ....} الأنفال/46 .

 

كما أن أحاديث الرسول الكريم قد حثت المسلمين على اجتماع الكلمة , وحذرت من عاقبة اختلاف ذات البين , ففي الحديث عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ، قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : صَلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ ) (1)

 

والحقيقة أن في حجة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الوحيدة مع المسلمين علامة فارقة في التأكيد على وحدة هذه الأمة , حيث كان اجتماع المسلمين مع الرسول الكريم لأداء فريضة الحج أعظم تجسيد لهذه الوحدة , كما أن خطبته في الناس في هذه الفريضة كانت أبلغ تحذير لأمته من عواقب الفرقة والانقسام , فقد جاء فيها قوله صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس..... إنما المؤمنون إخوة ....... فلا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّاراً يضرب بعضكم رقابَ بعضٍ ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضِلوا بعده: كتاب الله .........إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى .....) (2)

 

إن من يراقب أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها , ويتابع ما يحل بهم من كرب و ما ينزل بهم من محن , وخصوصا في كل من سورية والعراق وبورما وغيرها , يتأكد له أن مقصد الحج الأهم الذي تحتاجه الأمة هذه الأيام , والمتمثل في التضامن والتكافل و التعاضد بين المسلمين المرسوم في قوله صلى الله عليه وسلم : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) (3) غائب في هذه الأيام , ولا بد من إعادة التذكير به لجني ثمرة العبادات المتمثلة بجلب المصالح ودرء المفاسد عن المسلمين .

 

إن هجرة مئات آلاف المسلمين السوريين والعراقيين وغيرهم إلى بلاد الغرب هذه الأيام , ومغامرتهم بحياتهم وحياة أزواجهم وأولادهم في عرض البحر للوصول إلى بلاد الغرب العلمانية اللادينية , هي في الحقيقة أكبر دليل على فقدان فريضة الحج لأهم مقاصدها وأهدافها , ناهيك عن كون هذه الهجرة مؤشر على حجم ابتعاد المسلمين عن أوامر دينهم في الوحدة والتضامن والتكافل , ونبذ الفرقة والاختلاف والتدابر .

 

لقد كانت فريضة الحج عبر تاريخ الدولة الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى عهد الخلافة العثمانية موسما لإرساء معاني التضامن والتكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي , وفرصة لإنصاف المظلومين ومحاسبة المقصرين من الولاة والمسؤولين عن رعاية مصالح الأمة , فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجعل من موسم الحج فرصة للمراجعة والمحاسبة , واستطلاع آراء الرعية وحل مشكلاتهم , ولعل ما فعله في عام الرمادة من الاهتمام بمعاناة ومشاكل المسلمين , خير شاهد على هذا الحرص الشديد على التضامن والتكافل بين أبناء الأمة الواحدة .

 

إن لكل عبادة في الإسلام مقاصد وغايات , فإذا لم تتحقق أهم تلك المقاصد والغايات فإن العبادة تفقد جزءا من روحها وجوهرها النفيس , ومن هنا فإن تذكير وتركيز الدعاة والعلماء والمربين على مقصد الوحدة وتضامن المسلمين فيما بينهم , ليس على مستوى الأفراد فحسب , بل على مستوى الحكومات والدول والمؤسسات وهو الأهم , و خصوصا في وقت الأزمات والمحن التي تمر بها الأمة ... يعتبر من أولى الأولويات في دين الله .

 

___________________________

(1)            سنن الترمذي برقم 2509 وقال : هذا حديث حسن صحيح .

(2)            انظر نور اليقين من سيرة سيد المرسلين  للشيخ الخضري 1/235 و سنن الترمذي برقم 3087 و أصل حديث خطبة حجة الوداع في صحيح مسلم برقم/3009 

(3)            صحيح مسلم برقم/6751