روح الحج وريحانه: لبيك اللهم لبيك
29 ذو القعدة 1439
أمير سعيد

على قدر عظمة النسك تأتي عظمة البداية، حيث الانخلاع من لعاعة الدنيا وزخرفها، والهرولة إلى الاستجابة لأمر الله، والمسابقة إلى مرضاته عز وجل.
صوت الأذان ما زال صداحاً يدوي في أرجاء الأرض، تنبض روحه في نفوس المؤمنين بملة أبيهم إبراهيم عليه السلام، الذي وقف في زمن بعيد يؤذن هنا في مركز الأرض، فتتسامع آذان المسلمين الذين سماهم الخليل بهذا الاسم العظيم، يتوافدون متلهفين يجهرون ويجأرون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

 

إنها استجابة لنداء لم تحجبه آلاف السنين من أن يُسمع ويستجاب له، وبصيغة نادرة في العبادات، "لبيك"، حيث تختزل في هذه الكلمة معانٍ ساميات، فكما يقول أهل اللغة والمعاجم؛ فاللبأ هو أول نتاج اللبن، وهو أول السقيا، وأول الخير. إنها الإجابة بلهفة واشتياق وترحاب، وكما يقول الشعراوي في كتابه الحج المبرور: "هذا معناه ترحيب بالتكليف وصفاء النفس، لتقر بأن كل تكليف لله تعشقه النفس وهو أمر محبوب اليها. والتكليف عادة ما يكون شاقا على النفس، لأنه يقيد حركة الانسان بأن تأمره بفعل أمر معين، أو تنهاه عن اتيانه، مهما يكن موقفك منه حب أو كراهية، فالامتثال لأمر الله هو الدليل علي قوة الايمان. فالإنسان المؤمن يتلقى التكليف من الله بعشق سواء كان أمرا بفعل، أو نهيا بلا تفعل".

 

وفي المعاجم، كما في الوسيط: "لزومًا لطاعتك، أَو إلبابًا بعد إلباب، وإقامة بعد إِقامة، وإِجابة بعد إجابة. أو معناه: اتجاهي إليك وقصدي وإقبالي على أمرك"، أو "اللهم إني على طاعتك مقيم"، كما في المعاصر وغيره، ولهذا المعنى الذي يوحي بالإقبال على الله عز وجل، واسترخاص كل مشاق في تكليفه، والشوق إلى مرضاته، جاء تكرار كلمة "لبيك" لتؤكد وتبرهن على استقرار هذا المعنى، وترسيخ هذه المشاعر الجياشة في نفس قائلها، واسترضاء للخالق عز وجل وخضوعاً وانقياداً له، وحباً وإقبالاً.

 

إنها عنوان التوحيد له سبحانه وتعالى، وتجسيداً لمعنى العبادة في كمال ذل الحاج مع كمال حبه لخالقه، وهي مرادفة لكلمة التوحيد مع صرف هذه العبادة وغيرها له سبحانه: "لبيك لا شريك لك"، يقول العباد في شرح سنن أبي داود: "كلمة: لبيك لا شريك لك هي بمعنى: لا إله إلا الله، فلبيك هي بمعنى: (إلا الله)، ولا شريك لك: هي بمعنى (لا إله)، فلبيك لا شريك لك فيها نفي وإثبات، فهي تنفي العبادة عن كل ما سوى الله، وتثبتها لله وحده لا شريك له، وقول الملبي: لبيك لا شريك لك فيها خطاب لله تعالى، أي: أجيبك وأجيب دعوتك، ولا أشرك معك أحداً في العبادة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]".

 

إنها بداية لا أروع منها لعبادة تحتاج إلى مجاهدة نفس عظيمة ألا تزل قدماها فتنة في فخاخ الرياء والسمعة، فيحوطها التوحيد والتذكير بالإخلاص له سبحانه وتعالى بالطاعة، استجابة وانقياداً وإبعاداً لوساوس الشرك، كل الشرك، جليه وخفيه.

 

تبدأ الصلاة بالتكبير، وهو رديف آخر لكلمة التوحيد، ويبدأ الحج بالتلبية، كمرادف لهذه الكلمة العظيمة، فلا عبادة دون إخلاص وإفراد لله سبحانه بالعبادة، وتتكرر كلمة التلبية بكل أشواقها لتحذف كل كلمات المشقة والتعب من قاموس المحبين المتشوقين إلى البيت العتيق. ولا غرو؛ فعبادة تكتنفها بعض المتاعب التي يتكبدها الحجيج جديرة بأن تحدوها عبارات استهلال المحبين.. "لبيك.. لبيك" أو كما زاد ابن عمر رضي الله عنه: " لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك والرغباء إليك".. استمطاراً للسعادة والمساعدة، واستجلاباً للخيرات والغفران من الراغبين المقبلين الناسكين الطائفين العاكفين الركع السجود. ومن قبل "إن الحمد والنعمة لك والملك"، إذ ما أعذب الحمد على التوفيق للنسك وعلى سائر نعم الله سبحانه، وما ألطف أن يسبق الحمد النعمة – على غير المألوف – توكيداً على استمرار ما يستدعي الحمد دوماً سابقاً ولاحقاً كما يقرر بعض أهل العلم، وما أبدع صورة تقرب صورة المحشر حيث لا ملك إلا له سبحانه وتعالى.

 

إنها البداية الرائعة ترتفع بها الأصوات، تحقيقاً لأفضل الحج، "العج والثج"، كما في الحديث الصحيح، (العج) رفع الصوت بالتلبية و(الثج) إسالة دم الهدي.
" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".