مدينة الصادقين
2 ذو القعدة 1439
د. خالد رُوشه

وسط طاحونة الحياة تتأثر أخلاقيات البشر , وتختلف طباعهم ،بل وتتغير سماتهم نتيجة الضغوط ، والجواذب والصراع بين الآمال والمبادئ!

 

وقلما ينجح انسان في النجاة من آثار هذه الطاحونة الثقيلة , وقلما ينجو امرؤ من جراحاتها ونزفاتها ، ولا يكاد أحد أبدا ينجو من آلامها .

 

القضية هنا هي قضية الصدق ، ذاك الخلق الذي اغترب كما اغترب كل شيء جميل في هذه الحياة !

 

وكأننا عندما نتكلم عن الصادقين نتكلم عن واحة غناء لا توجد إلا في ثنايا أبيات الشعراء ، وبين سطور معاني الروايات الحالمة ، ناسين أن الصدق خلق أصيل أمر الله عباده أن يعيشوا به ويتخلقوا به ، ويتمثلوا بالصادقين فتصير حياتهم كلها صدق في صدق ، قال سبحانه : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "

 

وكم كتب الناس حول الصدق ، ولست أريد ههنا تكرار المعنى ، إنما نهزني نحو الكتابة فيه هذه الحال الأفاكة المزورة التي تعيشها المدن من حولنا ، وتعيشها الحضارات كذلك ، تلك القائمة على أخلاق المادة لا أخلاق الانسان ,

 

فصار همها بناء المادة وتزيين المادة والاستقواء بالمادة والانفاق على المادة ، وصار الانسان في ذيل قائمة الاهتمامات ، وصار بناء الانسان آخر ما ينظر إليه من تلك البناءات .

 

الاسلام لما أمر بالصدق أمر به كمنهاج حياة , وطريقة عيش واسلوب بناء ، أمر به كسمة حضارية راقية عليا ، وكوصف اصلاحي عظيم أصيل ، فمن امتثله في حياته كلها انصلحت حياته ، وصار صالحا أينما كان ، إذ هو صادق أينما كان 

 

واطمأن من بنى أن بناءه سيصير فائزا وأن جهده لن يضيع سدى , كذا قال خير الصادقين صلى الله عليه وسلم " إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة " ، فهو يهدي إلى حياة الأبرار الذين سبيلهم فوز خالد دائم ، ووصفهم هو وصف الصديقين الأنقياء .

 

هؤلاء الصادقون تعرفهم بسيماهم ، فهم الثابتون إذا تردد الناس ، وهم أصحاب المبادئ إذا ذابت قيم الناس ، وهم أصحاب المواقف إذا انكسر الناس،  وهو القدوات إذا استعلى الرويبضة ، وهم العلماء إذا ساد الجُهال .

 

إنهم لا يخشون في الله لومة لائم ، إذ كلمة الصدق سلاحهم ، ومنهاج الصدق جزيئات أعمالهم ، فلا خوف يعتريهم ، ولا وجل يقربهم ، إذ هم عباد الله الصالحون ، ملاذهم سجدة الصدق في جوف الليل الآخر ، وصوتهم نبرة الصدق في مواقف الألم ، وخطاهم خطى الصادقين نحو المعالي .

 

أولئك الأبرار ، عندما يبنون مدينة يبنونها بلبنات مضيئة ، فلا مكان للكذب فيها ولا للغش ولا للخديعة ولا للمراءاة ولا للخيانة ولا للزيف .

 

فالجدران كلها نقية كأنها من موج أبيض شفاف ، والأجواء كلها نقية فلا تلوث بكلمة كاذبة ولا بسلوك مخادع ، وكل بنيان بني على أصل أصيل من تقى وأساس راسخ من إيمان ,

 

وطرقاتها مستقيمة كلها لا اعوجاج فيها ، كيف والصادقون هم البناؤون , وأنوارها ذاتية تنبثق من كل لبنة في كل حدب وصوب ، وكيف ومن أين تأتي الظلمة والصدق شعاعة يتلاقى في كل زاوية ؟!

 

 والناس في مدينة الصادقين يبنون في كل يوم مبدأ وقيمة ، ويصلحون في كل يوم قلبا ونفسا ، ويهدون في كل يوم ضالا ، ويعلمون في كل يوم جاهلا , تلك حياتهم إذ لا يرون الحياة إلا ببذل كل جهد يستطيعونه ، كيف لا وهم الصادقون في العطاء !

 

ويوم تحوم حول مدينة الصادقين غربان العداء ، فإن طريقة الصادقين في الدفاع عن مدينتهم معروفة ، فهي اللجوء للقوي العزيز والسجود بين يديه تقربا وسؤالا للحماية والبكاء بين يديه تذللا ورجاء للاستقواء به سبحانه ، ثم تعاضد أيديهم ووقوفهم كالبنيان المرصوص لصد صولة الغربان ,

 

فلا صوت شاذا في هذه المدينة بله صوت الخير وفقط ولون النور وفقط ومعنى الحق وفقط , ثم مصير ينتظر هذه القلوب الصادقة عند رحيل أعمارها وانتهاء مهلتها ، إلى حياة أضوأ ، وإلى نعيم أخلد ، وإلى متاع أتم في جنة عالية .