في نور آية كريمة {وإنك لعلى خلق عظيم}
29 رمضان 1439
أمير سعيد

هي شهادة إذن من خالق الأكوان بعظمة خلق النبي صلى الله عليه وسلم ورفعته، حيث يأتي التأكيد على اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة الخلق ممن يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير سبحانه.

 

وما أعظمها من شهادة، وما أبهاها حين تأتي في مقابل وصف بغيض اختلقته "النخبة" القرشية الكافرة، التي خضعت من قبل لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود في مكانه قبل البعثة عرفاناً برجاحة عقله؛ فإذا الغيظ يعمي أبصارها ويضل قلوبها فتقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه مجنون! فيجيئها الرد صاعقاً بعد نفي ذلك: ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾.

 

هو ذاك الخلق، الذي يحدو إلى الإيمان برسالة صاحبه، تماماً مثلما استنتج هرقل، وهو الرجل الذي عركته دواهي السياسة ودروبها حين سأل أبا سفيان بن حرب، أكان يكذب قبل البعثة، فأجابه أن لا؛ فقال: "ما كان ليذر الكذب على الناس ليكذب على الناس".

 

إن هذه العظمة بحد ذاتها من كبريات دلائل النبوة، التي تستدعي من العقلاء أن يتنسموا هذا العبير، ويتأسوا بصاحبه الخلوق، الذي يفوق في الخلق حسنه إلى عظمته، وهي مرتبة أعلى وأسمى. أوليست قد قالت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلقه كما في صحيح مسلم: ((كان خلقه القرآن))؟! بلى، إن من تنعكس عليه الرسالة هكذا بكل ما أتت منه من أحكام وأخلاق وآداب، لهو قمين بأن يكون حاملها إلى الناس جميعاً؛ فإذا كانت الرسالة عظيمة؛ فحق أن يكون المبعوث بها صاحب الخلق العظيم الفريد. يقول الحافظ ابن كثير: " ومعنى هذا أنه عليه السلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له، وخلقا تطبعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء، والكرم والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق جميل".

 

هذا ملمح بارز لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لازمة لكل داعية صادق يحمل هم دعوة الله الخاتمة، يبلغها للناس أن يكون هكذا أو قريباً متأسياً بصاحب هذا الخلق العظيم الفريد، وإلا حصل الانفصام بين الخطاب وصاحبه، وتدنى تأثير كلماته، وأخفقت دعوته وضل طريقه.

 

ولقد اختلف المفسرون في الخلق العظيم، فذكر الماوردي ثلاثة أوجه:

"أحدها: أدب القرآن، قاله عطية.

الثاني: دين الإسلام، قاله ابن عباس وأبو مالك.

الثالث: على طبع كريم، وهو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب سمي خلقا لأنه يصير كالخلقة فيه"، وذكر الشوكاني أنه قيل: "هو القرآن، روي هذا عن الحسن، والعوفي. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله". وزاد البغوي أنه: "قيل: سمى الله خلقه عظيما لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله: ﴿ خذ العفو ﴾ الآية".

 

والخلق – كما قال الطاهر بن عاشور - في اصطلاح الحكماء: "ملكة أي: كيفية راسخة في النفس أي: متمكنة من الفكر تصدر بها عن النفس أفعال صاحبها بدون تأمل. فخلق المرء مجموع غرائز أي: طبائع نفسية مؤتلفة من انطباع فكري: إما جبلي في أصل خلقته، وإما كسبي ناشئ عن تمرن الفكر عليه وتقلده إياه لاستحسانه إياه عن تجربة نفعه أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد".

 

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تجسيداً لمعنى الخلق العظيم، ولقد تمكن هو من ذلك الخلق العظيم ولهذا جاءت "على" في الآية لتؤكد على هذا التمكن مثلما يقول أهل اللغة، قال صاحب أضواء البيان: "الخلق العظيم أرقى منازل الكمال في عظماء الرجال"، وقال البيضاوي: "وإنك لعلى خلق عظيم إذ تتحمل من قومك ما لا يتحمل أمثالك"، وقال أبو حيان الغرناطي: "قيل: سمي عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، من كرم السجية، ونزاهة القريحة، والملكة الجميلة، وجودة الضرائب. ما دعاه أحد إلا قال لبيك، وقال: ((إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق))، ووصى أبا ذر فقال: ((وخالق الناس بخلق حسن)). وعنه صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن)). وقال: ((أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقا))". قال عائشة رضي الله عنها: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل)) رواه مسلم، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: "أف" قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، ولا مسست خزا، ولا حريرا، ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم".

 

قال الطاهر بن عاشور في معنى الخلق العظيم ودلالاته: "الخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي صلى الله عليه وسلم فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن (...) ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم  أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها وأمره أن يقول وأنا أول المسلمين. فكما جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة.

 

واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين ، ومعرفة الحقائق ، وحلم النفس ، والعدل ، والصبر على المتاعب ، والاعتراف للمحسن ، والتواضع ، والزهد ، والعفة ، والعفو ، والجمود ، والحياء ، والشجاعة ، وحسن الصمت ، والتؤدة ، والوقار ، والرحمة ، وحسن المعاملة والمعاشرة .

 

والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه ، وثباته ، وحكمه ، وحركته وسكونه ، وطعامه وشرابه ، وتأديب أهله ، ومن لنظره ، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس ، وحسن الثناء عليه والسمعة.

 

وأما مظاهرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك كله وفي سياسيته أمته، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه".

 

لقد حاولت "النخبة القرشية" أن تنال من النبي صلى الله وعليه وسلم، فوصفته بالجنون، فجاء الرد صاعقاً بإثبات عظمة خلقه، فانهارت تلك الشائعة وآلاتها رغم صدورها عن وجهاء قريش الذين كانوا يشكلون رأيها العام، ويصوغون به عقول البسطاء، أمام قوة منطق الأخلاق الذي دحض كل التخرصات وزلزل أركان الباطل، فلم يعد التاريخ يتوقف طويلاً أمام تفاهة تلك الشائعة الرخيصة، بل حفظ ذلك الخلق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واقتدى به صحابته الكرام؛ فغزوا العالم بنبل أخلاقهم وسموها، وانهارت أمام تجسيدهم لتلك الشريعة الغراء في سلوكهم كل عقيدة أرضية فاسدة، وتفككت حياله كل منظومة أخلاقية بالية.