في نور آية كريمة.. { محمد رسول الله والذين معه }
14 رمضان 1439
أمير سعيد

﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]

 

 

على روعة الوصف الذي تنعت به الآية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها من جانب آخر تظهر ملمحاً بديعاً في تربية النبي صلى الله عليه وسلم، وتختط معانيها طريقاً مستقيماً لدور الدعاة والمصلحين في سائر العصور، أن يستخرجوا تربتهم الدعوية ويتعهدوا نبتاتهم الغضة حتى تبلغ هذا الزرع العظيم، الذي تحيا به الأمة المسلمة، ويتميز منه أعداؤها غيظاً.

 

 

هذا النبت لم يخرج اعتباطياً، بل بعد توفيق من الله، نتاج جهد فائق لنبي مربٍ قائد، وفي الآية ما يجلي هذا الملمح البارز لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته الفريدة لجيل غير مسبوق ولا ملحوق، جمع المكارم والمناقب كلها، وحقق توازناً لافتاً بين الشدة على الكفار وبذل الرحمة للمؤمنين، أينما التفت إليه وجدته في عبادة، ما بين ركوع وسجود في تواضع وخضوع، فهم إذ يبتغون ثواباً لا يرونه أجراً بل فضلاً من خالقهم سبحانه وتعالى.

 

 

هذا الجيل الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم، يعد انعكاساً لتربية متوازنة متأنية شأنها كشأن متعهد البذور حتى تنبت وتشتد برعاية وإتقان، يقول ناصر العمر في كتاب "ليدبروا آياته": "ليس المزارع الحاذق من ينثر الحب في الفلاة؛ ليسقيه المطر أو تذروه الرياح! وإنما هو من يحسن اختيار الحب والتربة والماء، ويتعاهده حتى يؤتي أكله بإذن ربه ﴿ كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ﴾."

 
﴿ محمد رسول الله ﴾، فيها ثلاثة وجوه، حكاها الرازي، ومجملها:
الأول: "محمد" خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو: أي هو ما تقدم ذكره إنما هو محمد رسول الله.
الثاني: "محمد رسول الله" مبتدأ وخبر، وعليه فإن الأوصاف التالية مقصود بها أصحابه رضوان الله تعالى عليهم.
الثالث: أن "رسول الله" نعت، وأن الخبر هو "أشداء" أي: محمد والذين معه، أشداء.. رحماء.

 

وانتصر القرطبي في الجامع للوجه الثاني، فقال: "لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه، فيكون محمد ابتداء ورسول الله الخبر والذين معه ابتداء ثان. وأشداء خبره ورحماء خبر ثان".

 

 

ولكن أكان الوصف للنبي وأصحابه أم لأصحابه فقط، فإن ذلك لا يمانع أن هذا هو نتاج جيل رباه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفات الفريدة، التي تجمع ما بين الشدة على من يستحقها والرحمة لمن ينبغي أن تبذل له، ودوام الصلاة والتبتل إلى الله سبحانه وتعالى، قال الشعراوي: "﴿ والذين معه ﴾ أي: آمنوا به وأصلحوا في معيته البشرية والمنهجية، وهؤلاء وصفهم بأنهم ﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾،  إذن: جمعوا بين الشيء ونقيضه، بين الشدة والرحمة. وهذا دليل على أن المؤمن ليس له طبْع واحد يحكمه، إنما يتغير تبع التكليف الذي يأتيه من ربه عز وجل، فمع الأعداء تجده قوياً شديداً عليهم، يُريهم أن قناة المؤمن لا تلين، أما مع إخوانه المؤمنين فهو رحيم بهم شفيق عليهم".

 

 

ويعكس ذلك الشخصية المتوازنة التي أنتجتها تربية متوازنة حكيمة، فجعلت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فئة تجمع بين جهادها للعدو ووحدتها الوثيقة التي تجمعها وشيجة الأخوة ورابطة الإيمان فتتبدى رحمة متبادلة بينهم، وهي مع حالها ذلك عابدة متبتلة، يقول السعدي في تفسيره: "هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك ﴿ تراهم ركعاً سجداً ﴾"، وقال الطاهر بن عاشور: " والشدة على الكفار: هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيمانا من أجل إشراق أنوار النبوة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة"، وزاد رحمه الله: " وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدة والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية". وقرأ الحسن أشداءَ ورحماءَ بالنصب على الحال، أي حين شدتهم على الكفار ورحمتهم على المؤمنين، تراهم ركعاً سجداً، وهو إخبار عن كثرة صلاتهم، قاله القرطبي.

 

 

إن الجيل الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم، وانسكبت فيه نفحات إشراق نبوته هو جيل مجاهد شديد على أعداء الدين، رحيم بأبنائه، وهو مع كثرة عبادته لا يرى لنفسه فضلاً ويدرك أنهم معوزون إلى أفضال الله ورحماته؛ فلا يطلبون أجراً بل فضلاً من الله سبحانه في ذلة لله سبحانه وخضوع له من دون عجب أو كبر.

 

 

وهؤلاء ترتسم على محياهم آثار عبادتهم من دون تصنع أو رياء أو تكلف، ﴿ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ﴾، وفي الأثر أقوال أجملها ابن العربي في أحكام القرآن في ستة تأويلات:

أحدها: أنه ثرى الأرض وندى الطهور، قاله سعيد بن جبير .

الثاني: أنها صلاتهم تبدو في وجوههم، قاله ابن عباس .

الثالث: أنه السمت، قاله الحسن .

الرابع: الخشوع، قاله مجاهد .

 

الخامس: هو أن يسهر الليل فيصبح مصفرا، قاله الضحاك .

السادس: هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة، قاله عطية العوفي"

 

وقال الماوردي في تفسيره:
"﴿ ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه.
الثاني: أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل".

 

و﴿ شطأه ﴾ فراخ الزرع، ذكره الجوهري. وعند النسفي: "مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".

 

 

وفي المعنى جمال بديع، تختتم به هذه الآية وتلك السورة، يقول القشيري في لطائف الإشارات: "يقال: أشطأ الزرع إذا أخرج صغاره على جوانبه. ﴿ فآزره ﴾ أي عاونه. ﴿ فاستغلظ ﴾ أي غلظ واستوى على سوقه وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرع الزرّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار شبّه النبي صلى الله عليه وسلم بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ما ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين.

 

فمن حمل الآية على الصحابة: فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال: ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ أي (ليغيظ) بأصحابه الكفارَ. ومن حمله على المسلمين ففيه حجّة على الإجماع، لأنّ من خالف الإجماع - فالله يغايظ به الكفار- فمخالف الإجماع كافر قوله جل ذكره: ﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ﴾  وعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجرا عظيما في الجنة فقوله: ﴿ منهم﴾ للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان".

 

 

إن هذه التربية وإن أنتجت شخصيات رائعة فإنها لم تتركها هملاً ولا مبعثرة، بل جعلتهم زرعاً متآزراً قوياً موحداً تفرق الأعداء وترتعب من وحدته وصلابته، إنها في الحقيقة ملامح التربية النبوية الرائدة التي أنتجت جيلاً جاب أصقاع الأرض يفتح البلدان بسنانه وبنانه ولسانه.