مصيدة الأخطاء.. لا تدع توبتك ناقصة..
8 رمضان 1439
د. عامر الهوشان

الحديث عن التوبة والإنابة إلى الله حديث ذو شجون تتوق إلى مفرداته أفئدة الموحدين وتتفاعل مع كلماته نفوس التائهين وتقبل على سماع توجيهاته آذان المبتلين بشيء من الذنوب والمعاصي وميراث إبليس اللعين.
 

يلج باب التوبة كل ساعة من ليل أو نهار أعداد لا يعلمها إلا الله من عباده الأوابين، وتزداد تلك الأعداد وتتضاعف في أوقات نفحات الله ومع مواسم الخير والطاعة والعبادة في شهر رمضان المبارك.
 

لا يكاد يخلو حديث داعية إلى الله أو واعظ أو مرشد من ضرورة الحياة في شهر النفحات والبركات بتوبة صادقة وأوبة إلى الله خالصة يعيش بها المسلم فريضة الصيام ويجعلها وسيلته وسبيله لحياة جديدة مع أوامر الله ونواهيه.
 

أجمع العلماء على أن شروط قبول التوبة هي: الندم على ما فرط في جنب الله وما ارتكب من معاصي وآثام، وترك مقارفة الذنوب والخطايا في الحال، والعزم الصادق على أن لا يعود إليها، ورد المظالم وأداء الحقوق إلى أصحابها إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي.
 

كثير من المسلمين ممن يسارع إلى التوبة والإنابة إلى الله في مستهل الشهر المبارك من قد يغفل عن شرط التوبة الرابع المتعلق برد المظالم وأداء حقوق العباد متوهما أن التزامه بالشروط الثلاثة الأولى كاف لصحة توبته وقبول أوبته متناسيا النصوص الشرعية التي تؤكد وجوب أداء حقوق العباد ورد المظالم والتحلل منها لقبول التوبة.
 

جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) صحيح البخاري برقم/2449
 

بل ورد في حديث آخر ما هو صريح الدلالة على أهمية رد الحقوق إلى أهلها وضرورة إبراء الذمة من الديون والمستحقات التي لا تسقط بمجرد الاستغفار والتوبة ولا يُعفى عنها أو يمكن تجاوزها يوم القيامة بغير الأداء.
 

الحديث في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ) قال الإمام النووي في شرحه للحديث: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الدَّين" ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين وإنما يكفر حقوق الله تعالى" شرح صحيح مسلم للنووي 13/29.
 

وإذا كان الجهاد في سبيل الله والشهادة في ساحات الوغى وبذل المسلم دمه وروحه إعلاء لكلمة الله لم تُسقط عن كاهله حقوق العباد ولم تشفع لصاحبها الذي تعلقت بذمته حقوق الآدميين من دين أو غيره...فإن بقية العبادات والطاعات لن تفعل ذلك من باب أولى.
 

قد تنفع التوبة الصادقة التي لم تستوف شرط أداء الحقوق ورد المستحقات لأصحابها في مغفرة الذنوب المتعلقة بحقوق الله الذي وعد التائبين بالعفو والمستغفرين بالتجاوز والمغفرة مهما كانت ذنوبهم وآثامهم قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } الزمر/53...أما المعاصي المتعلقة بحقوق العباد فلا مفر من أدائها لمن أراد حقا استكمال توبته وطمع في قبول أوبته.
 

إن إسقاط بعض المسلمين لشرط أداء الحقوق من توبتهم قبيل رمضان مع قدرتهم على الوفاء بالديون المستحقة للدائنين ورد المال المسروق من الغير أو المأخوذ بغير وجه حق لصاحبه والعودة عن أكل حق ميراث البنت المخالف لنصوص الشريعة الإسلامية ويجعل من توبتهم في موسم الإقبال على الله منقوص ويعرض حسناتهم وثوابهم الذي يمكن أن يحصلوه من طاعات وعبادات خلال أيام رمضان ولياليه للذهاب إلى ميزان حسنات من لم يردوا له حقه أو يستبرؤوا منه مظلمته.
 

ورد في الحديث عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ)؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَ يَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) سنن الترمذي برقم/ 2418 وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
 

لا يمكن للنفس أن تصفو وللقلب أن يخشع وللروح أن تسمو وللجوارح أن تقبل على طاعة الله بصدق وإخلاص في شهر الصيام دون استكمال أهم وأخطر شروط التوبة النصوح المتمثل برد المظالم وأداء الحقوق لأصحابها، حينها فقط يستشعر العبد حلاوة الطاعة ويتذوق لذة العبادة بل حينها فقط يرتاح ضميره وتسكن وساوسه ومخاوفه وهواجسه فتصفو له الحياة ويهنأ له العيش.