الأزمة المالية وتهافت الرأسمالية
30 رمضان 1429
د. محمد يحيى
في نفس اليوم الذي كان فيه الإعلان عن انهيار بعض أكبر المؤسسات المالية الأمريكية، وقف مسئول في إحدى البلاد العربية ليعلن ضرورة إتباع النهج الرأسمالي الكامل، والذي وصفه في بعض جوانبه باللامركزية في كل جوانب الحياة، وهنا يثور تساؤل معين، لماذا هذا الإلحاح على النهج الرأسمالي في نفس الفترة التي بدت فيها عيوب هذا النهج عند أصحابه في البلاد الغربية إلى حد أنهم هناك الآن وبعد أن كانوا يقدسون ما أسموه بحرية السوق الكاملة، وعدم تدخل الدولة في إدارة هذا السوق أو توجيهه وفق أي معايير يعودون عن هذا الصنم المقدس ويرجعون إلى أفكار أشبه ما يكون ببعض ما كان يتردد داخل المدارس الاشتراكية المختلفة أو مدارس الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي.
لقد تراجع عتاة الفكر الرأسمالي في أقصى اليمين الأمريكي وعلى رأسهم الرئيس بوش أو على الأقل تراجعوا في الظاهر مهما كان ما يبطنونه عن هذا النهج الشرس، ولم يكونوا هم وحدهم بل سمعنا معهم الرئيس الفرنسي مثلاً يعلن أنه لا يريد النمط الرأسمالي المنفلت بل ويريد رأسمالية كما أسماها منضبطة ومحكومة كما سمعنا وزير المالية الألماني يعلن عن رأيه بأن النظام الرأسمالي قد ظهرت عيوبه وأن المكانة الأمريكية الرائدة في هذا المجال سوف تزول سريعًا، وإن على فترات وبالتدريج، وسمعنا كذلك من بين المعلقين الأمريكيين من يستنكرون محاولة بوش إنقاذ النظام الرأسمالي من خلال تدخل الحكومة بقولهم بأنه إذا كان هذا النظام قد فشل وتسبب في ضحايا لا حصر لهم من بين المواطنين العاديين فلا يجب إنقاذه من أموال دافعي الضرائب من بين هؤلاء المواطنين الأمريكيين العاديين الذين ادخروا نقودهم التي عملوا بها وكدحوا بها ولم ينفقوها في ثورة الاقتراض من البنوك والتي أدت في نهاية الأمر إلى انهيار عدد من المصارف الكبرى وشركات الرهن العقاري والإقراض لبناء المساكن.
وإضافة إلى ما يحدث في أمريكا وإلى تصريحات كبار المسئولين فإن المرء الذي يطالع ما يكتبه المحللون، إن المحللين في الغرب يتحدثون الآن عن انهيار فقاعة الاقتصاد الرأسمالي والتي بدأ انهيارها مع انهيار المصارف الكبرى، وإذا كان هذا هو الحال في الغرب فلماذا نجد عندنا مسئولين صغارًا أو كبارًا يستمرون على الإصرار بالأخذ بالنهج الرأسمالي المنفلت والصريح والخالي من أيه رقابة، ويصرون في نفس الوقت على إنهاء مفاهيم مثل التكافل الاجتماعي والرعاية الاجتماعية من جانب الدولة من المواطنين وما أشبه ولماذا نجد ذلك الإلحاح على تنفيذ إدخال النهج الرأسمالي، ليس فقط إلى جوانب الاقتصاد والأسواق والتجارة والمال بل إلى كافة جوانب الحياة، والإصرار على إدخال قيم هذا النهج الرأسمالي في التعاملات بين الناس وفي حتى مجال الأحوال الشخصية الذي ينظم علاقات الأفراد داخل الأسرة، وذلك كله على حساب سيادة القيم الإسلامية الأصيلة وعلى حساب وجودها في المجتمع.
وفي الواقع فإننا نضع إصبعنا على موطن الداء، إن التفسير الوحيد الذي نجده الآن لذلك الإصرار الذي أسميه بالمريض والغريب والمريب على تنفيذ النهج الرأسمالي بحذافيره وفي صوره الشرسة والمنفلتة بكامله على كل جوانب الحياة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية والإصرار على ذلك في وقت اتضحت فيه عيوب هذا النظام بالكامل فالغرب يقول ان هذا الإصرار لا يعبر إلا عن شيء واحد فقط وهو أنه إصرار يتم لا حبًا في ذلك النظام الرأسمالي وإنما كراهة في القيم الإسلامية وتصورًا بأن الإلحاح على التنفيذ الحرفي للرأسمالية الشرسة والمنفلتة على كل جوانب الحياة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إنما سوف يؤدي إلى المزيد من التدهور والانهيار في منظومة القيم الإسلامية والتراثية الأصيلة التي ظلت تهيمن على حياة هذه الأمة وتوجهها منذ مطلع الإسلام والتي يراد الآن هدمها بأي ثمن، ذلك لأن الذين يريدون الرأسمالية بأي سبيل لا يريدونها كما هو واضح الآن لأنها نافعة للمجتمع أو لأنها تصلح لحل مشكلاته بل لأنها في تصورهم هي سبيل أمثل لإعمال يد الهدم والتخريب في القيم والمثل والنماذج الإسلامية في هذا المجتمع.