وقفه إيمانية مع حديث : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" 2\2
22 رمضان 1429
عبد المجيد بن صالح المنصور

 

( تحدثنا في الجزء الأول من المقال عن مفهوم الحديث النبوي الشريف وما يتعلق به من كلام العلماء ثم أدلفنا نحو فوائد لازلنا نتحدث فيها في هذا الجزء )

المشهد السادس: مشهد التقصير وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد، وبذل وسعه فهو مقصر، وحق الله سبحانه عليه أعظم، والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها...ثم قال: وملاك هذا الشأن أربعة أمور: نية صحيحة، وقوة عالية يقارنهما رغبة ورهبة)أ.هـ مختصراً.

 

   وقال في طريق الهجرتين معلقاً على الحديث: (فقرة العين فوق المحبة فجعل النساء والطيب مما يحبه، وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها، ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة الله وحضور بين يديه، ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها، فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه...)إلخ.

 

  وقال رحمه الله في مدارج السالكين واصفاً حال المحبين الصادقين: (فإن عبادتهم طوعاً ومحبة ورضاً، ففيها قرة عيونهم، وسرور قلوبهم، ولذة أرواحهم، كما قال النبيr: وجعلت قرة عيني في الصلاة، وكان يقول: يا بلال أرحنا بالصلاة، فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه في طاعة محبوبه، بخلاف المطيع كرهاً المتحمل للخدمة ثقلاً...).

 

   وقال شيخه ابن تيمية: كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة، ولهذا كان النبي rيقول:[حبب إلي من ديناكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ] وفي حديث آخر أنه قال:[ أرحنا يا بلال بالصلاة ]، ولم يقل: أرحنا منها، وفي أثر آخر: ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهموماً حتى يقوم إلى الصلاة، أو كلام يقارب هذا...)إلخ،    وقال في مجموع الفتاوى: (وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره، وتنعماً بمعرفته، ولذة وسرورا بذكره ومناجاته، وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق، فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل، ولهذا قال في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: حبب إلي من ديناكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة، وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال...)إلخ.

 

   وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى: (وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة، ولهذا كان النبي r يقول أرحنا بالصلاة يا بلال، ولا يقول أرحنا منها كما يقوله من تثقل عليه الصلاة كما قال تعالى: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) والخشوع الخضوع لله تعالى والسكون والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح، وكان النبيr يقول حبب إلى من دنياكم النساء والطيب ثم يقول وجعلت قرة عيني في الصلاة)، ولم يقل حبب إلي من دنياكم ثلاث كما يرفعه بعض الناس بل هكذا رواه الإمام أحمد والنسائي أن المحبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وأما قرة العين تحصل بحصول المطلوب، وذلك في الصلاة...)إلخ

 

   الفائدة الثالثة: قال السيوطي في شرحه على سنن النسائي: وفي هذا الحديث إشارة إلى وفائه r بأصلي الدين وهما: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وهما كمالا قوتيه النظرية والعملية، فإن كمال الأولى بمعرفة الله، والتعظيم دليل عليها؛ لأنه لا يتحقق بدونها، والصلاة لكونها مناجاة الله تعالى على ما قال r المصلى يناجي ربه نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها، وكمال الثانية في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس نفسه وبدنه، كما قال r ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، إلى أن قال: ثم إن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال؛ لأنهن أرق ديناً وأضعف عقلاً، وأضيق خلقاً، كما قال  r ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، فهو عليه الصلاة و السلام أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى: (تبتغي مرضات أزواجك)، وكان صدور ذلك منه طبعاً لا تكلفاً كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال، فإذا كانت معاملته معهن هذا، فما ظنك بمعاملته مع الرجال الذين هم أكمل عقلا، وأمثل دينا، وأحسن خلقا...)الخ.

 

   الفائدة الرابعة: في هذا الحديث الرد على من يزم أن معيار التدين هو المبالغة في التقشف، والرهبنة والامتناع عما أباحه الله من الطيبات، وظنوا أن الزهد إنما يكون في الظاهر وما يبدوا للناس، وذلك لجهلهم بهدي وسيرة سيد المرسلين، فقد كان أخشى الناس لله وأتقاهم له، ولكنه يصوم ويفطر ويقوم ويرقد ويتزوج النساء كما صح في الحديث المتفق عليه الذى قال في نهايته "ومن رغب عن سنتي فليس مني"، ولم ينقل عنه فعل ما يفعله بعض المتزهدة المخالفة لهديه، وذلك لأن حقيقة الزهد عندهr في الباطن، وفي علاقة العبد بربه، ومراقبته له، وخشيته والتذلل له، وليس الزهد في المظهر والملبس، فهاهو r من أشد الناس عناية بنظافة جسمه، وبالطيب وحسن الملبس، مع أنه لا يختلف في أنه سيد المتزهدين r، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: (فالزهد في الدنيا يراد به تفريغ القلب من الاشتغال بها ليتفرغ لطلب الله ومعرفته والقرب منه والأنس به والشوق إلى لقائه، وهذه الأمور ليست من الدنيا كما كان النبي r يقول: (حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) ولم يجعل الصلاة مما حبب إليه من الدنيا كذا في المسند والنسائي...) إلخ.

 

   الفائدة الخامسة: في الحديث مشروعية التطيب، والإكثار منه ومعاهدته، قال ابن القيم في زاد المعاد: وكان r يكثر التطيب، وتشتد عليه الرائحة الكريهة وتشق عليه، والطيب غذاء الروح التي هي مطية القوى، تتضاعف وتزيد بالطيب، كما تزيد بالغذاء والشراب والدعة والسرور ومعاشرة الأحبة وحدوث الأمور المحبوبة وغيبة من تسر غيبته ويثقل على الروح مشاهدته كالثقلاء والبغضاء... والمقصود أن الطيب كان من أحب الأشياء إلى رسول الله r، وله تأثير في حفظ الصحة، ودفع كثير من الآلام، وأسبابها بسبب قوة الطبيعة به).

 

   وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا وأقوالنا صالحة، ولوجهه خالصة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعل هذا الكلام حجة لنا لا حجة علينا، وأن يفقهنا في الدين، ويزيدنا علما إنه جود كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 
 
** تخريج الحديث :
رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في الأوسط، والضياء المقدسي في المختارة، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وابن عدي في الكامل، والعقيلي في الضعفاء،وابن أبي حاتم كلهم من طريق سلام أبو المنذر عن ثابت البناني عن أنس مرفوعاً، قال الإمام أحمد: "سلام أبو المنذر حسن الحديث" ورواه النسائي في السنن الكبرى، والحاكم في مستدركه من طريق سيار بن حاتم ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله r: حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) وهذا لفظ النسائي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، قال ابن حجر في فتح الباري (وسنده صحيح)، وقال في تلخيص الحبير: (رواه النسائي وإسناده حسن )، وقال الزين العراقي وسنده جيد، وقال الذهبي في الميزان:وإسناده قوي، وليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة زيادة: ( حبب إلي من دنياكم "ثلاث")، ولذلك ردها كثير من الأئمة والحفاظ لنكارتها من حيث عدم ورودها ولشذوذها معنىً، فإن الصلاة ليست من الدنيا بل هي من الدين التي تنفع صاحبها في الآخرة، ولقد حاول بعضهم إثباتها في تخريجات وكلام طويل مبسوط في كتب الحديث، ولكن الأظهر ما قاله الأولون، وممن أنكرها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في مجموع الفتاوى: (وكان النبيr يقول حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، ثم يقول: وجعلت قرة عيني في الصلاة، ولم يقل حبب إلى من دنياكم ثلاث كما يرفعه بعض الناس بل هكذا رواه الإمام أحمد والنسائي...)، وأنكرها كذلك ابن القيم: وقال في زاد المعاد: (هذا لفظ الحديث ومن رواه حبب إلي من دنياكم ثلاث فقد وهم ولم يقل r: ثلاث والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها).
   وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: (وأما ما استقر في هذا الحديث من زيادة ثلاث؛ فلم أقف عليها إلا في موضعين من الإحياء؛ وفي تفسير آل عمران من الكشاف، وما رأيتها في شيء من طرق هذا الحديث بعد مزيد التفتيش؛ وبذلك صرح الزركشي فقال: إنه لم يرد فيه لفظ ثلاث قال: وزيادته محيلة للمعنى فإن الصلاة ليست من الدنيا؛ قال: وقد تكلم الإمام أبو بكر بن فورك على معناه في جزء، ووجه ما ثبت فيه الثلاث، ونحوه قول شيخنا في تخريج الرافعي تبعاً لأصله: وقد اشتهر على الألسنة بزيادة: ثلاث، ...ولم نجد لفظ ثلاث في شيء من طرقه المسندة، وقال في موضع آخر: قد وقفت على جزء للإمام أبي بكر بن فورك أفرده للكلام على هذا الحديث وشرحه على أنه ورد بلفظ الثلاث، ووجهه وأطنب في ذلك، وقال: في تخريج الكشاف إن لفظ ثلاث لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى، ... وكذا قال الولي العراقي في أماليه: ليست هذه اللفظة وهي ثلاث في شيء من كتب الحديث وهي مفسدة للمعنى، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا انتهى).
   وقد أشار العقيلي إلى ضعف الحديث بسبب سلام أبو المنذر، لكن تعقبه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية فقال: وما أشار إليه العقيلي من أن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه مردود بما مر ، وبقول شيخ الإسلام ابن حجر رواه النسائي وإسناده حسن ، وقول الزين العراقي في تخريج الإحياء رواه النسائي والحاكم: وإسناده جيد وقول الذهبي: إسناده قوي...).