لا تحسبوه شراً لكم
19 رمضان 1429
د. إبراهيم الفوزان

   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد،،،

    لقد ارتفعت أصوات الناس حنقاً على تطاول السفلة من أقزام الصحافة والإعلام على سماحة الشيخ صالح اللحيدان – رئيس مجلس القضاء الأعلى في السعودية – وحق لهم ذلك، وكيف يلام من يغضب لله ويعادي في الله ويوالي في الله (ذلك بأن الله مولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم).  إن النيل من العلماء والوقيعة بهم من قبل أعداء هذا الدين الذين وصفهم الله بأبلغ وصف فقال في سورة المنافقون (هم العدو فاحذرهم) لهو دليل على تمادي الباطل واستطالته ونفوذه. 

 

ففي وقت قريب تكلموا في فتوى سماحة الشيخ ابن جبرين في حزب الله الرافضي وأجلبوا عليه، وبعدها بفترة وجهوا سهامهم لسماحة الشيخ عبدالرحمن البراك ووصفوه بأنه من رؤس التكفير عندما فضح مقالاتهم الكفرية، وبعد ذلك اجتمعوا على منازلة سماحة الشيخ صالح الفوزان، ثم انتهى بهم المقام إلى التشكيك في أعلى سلطة قضائية في البلد سماحة الشيخ صالح اللحيدان واتهموه بأنه داعية ارهاب وقتل عندما أنكر على ملاك القنوات الفضائية المنحرفة التي تبث السموم وتفسد العقيدة والدين والأخلاق، ووصفه لهذا العمل بالإفساد في الأرض وجواز الحكم على هؤلاء المفسدين بالقتل قضاءً. 

 

    نعم إنها معركة الحق والباطل التي قدرها الله على عباده (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) فماذا يريد هؤلاء من هذه الضجة والإجلاب على العلماء الربانيين؟  إبعاد الناس عن المرجعيات الشرعية لتفرغ لهم الساحة فيعيثوا في افكار الناس وأخلاقهم فساداً فتمسخ هويتهم الإسلامية ويصبحوا لقمة سائغة للتغريب والتنصير والإستعمار، هكذا يريدون!  لكنهم يمكرون (ويمكر الله والله خير الماكرين)  لقد ساءهم بقاء العلماء قامات شامخة في أرض هذه البلاد يقولون الحق ويذبون عن حياضه وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.  سدد الله علماءنا وحفظهم من كل سوء ومكروه وأبقاهم ذخراً للإسلام والمسلمين.

 

    إن طريق الإبتلاء هو طريق الأنبياء (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) رواه أحمد.  فلا يستغرب أن يبتلى العالم الرباني ويوصف بالإرهاب والتكفير، فقد وصف بأقبح من ذلك من هم أفضل وأحب إلى الله وهم الأنبياء، وصف محمد صلى الله عليه وسلم بالسحر والكهانة والجنون وغيرها من الأوصاف النابئة.  وقد ابتلي محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم مما يبتلى به العلماء فقد تعرض له المشركون بأنواع الأذى والظلم والطرد وكان مع ذلك كله ثابتاً على دينه لا يغير فيه ذلك شيئاً. 

 

    وقد ابتلي العلماء في السابق بأعظم مما نراه في مجتمعنا، فها هو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل يضرب بالسياط ويعلق في السقف ويحبس، كل ذلك ليقول القرآن مخلوق.  فصبر رحمه الله حتى أظهر الله أمره ورفع ذكره وذهب شانئوه أدراج الرياح، حتى إنه لقب بالإمام الوارث والصديق الثاني.  وها هو شيخ الإسلام ابن تيميِّة يؤذى ويسجن السنين الطويلة لا يرده ذلك عن قول الحق الذي أوجبه الله عليه (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره فإذا أرسله الله تابعوه فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف فبئس الصفقة صفقتهم وبئس البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" أ. هـ.

 

    إن ضيق المنافقين ذرعاً بفتاوى علماءنا لدليل على مكانة الفتوى وقوة تأثيرها وهذا ما كان محل شك عند البعض سواء من العامة أو العلماء أنفسهم، فقد أثبتت الفتوى التي تنطلق من منطلقات صحيحة وتوجه للأمور المصيرية التي تؤثر في واقع الأمة ومستقبلها وتقف ضد محاولات تغييب الأمة ومسخ هويتها أنها في غاية التأثير والأهمية.  ولهذا يمكن أن يقال أن هذه الهجمات الخبيثة من أذناب الغرب الذين يكلِّبون الأعداء على وطنهم وأبنائه لهي في حقيقتها خير لنا لنستيقظ من سباتنا ولينجلي ظلام التدليس واللعب بعقول الناس ويظهر نور الحق ويعرف الناس حقيقة المنافقين وعداوتهم للمسلمين وولاءهم للكافرين.

 

    ومن الخير أيضاً أن يتنبه العلماء لحساسية المرحلة المعاصرة وضرورة الوقوف يداً واحدة في مواجهة هذه الحملات الشرسة التي تستهدف النيل من الإسلام وأهله، وأن يقطعوا الطريق أمام كل من يريد تغريب البلاد وإبعادها عن دينها بقول كلمة الحق والصدع بها.  وصدق الله إذ يقول في حادثة الإفك وهو سبحانه أصدق القائلين (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) سورة النور.  يقول الإمام القرطبي رحمه الله في تعليقه على هذه الآية:  والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم . فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير; لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى.  فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " ; لرجحان النفع والخير على جانب الشر. أ. هـ.

 

حفظ الله علماءنا وسددهم وثبتهم على الحق (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).