دور إقليمي تركي متنامي
16 رمضان 1429
عماد خضر
تتوقف ممارسة دولة ما لدور إقليمي نشط في محيطها الجغرافي على مدى توافر مقومات القيام بهذا الدور داخلياً، ومدى قبوله من الأطراف الإقليمية المعنية. وبالنظر إلى حالة تركيا، سنجد أنفسنا في الواقع أمام دولة يحاول ساستها انتزاعها من إملاءات جغرافيتها، ومن ضغوط تناقض هويتها، غير أن جهود تركيا للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو "الخيار الاستراتيجي الرئيسي لها"، تواجه برفض واضح من جانب بعض الدول الأوروبية، لاعتبارات شعبية وثقافية ودينية عدة . وكنتيجة لهذا الرفض الأوروبي، اتجهت حكومة حزب العدالة والتنمية، كتعويض مرحلي لذلك، إلى تفعيل سياستها تجاه دول الجوار التي تمثل العمق الجغرافي لتركيا بانتماءاته المتعددة.
إن المراقب ليصاب بحالة من الاندهاش وهو يتابع النجاحات التي تحققها السياسة التركية، وأثبتت معها حضوراً قوياً وفاعلية مشهودة في المنطقة، الذي يبدو أنه مدفوع بقوة بفضل الانجازات الاقتصادية الكبيرة التي حققتها تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة في عام 2002 يكفي في التدليل على ذلك أن نعلم أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والعالم العربي ارتفع خلال تلك الفترة ثمانية أضعاف تقريبا من 4 مليارات إلى ما يزيد على 30 مليار دولار.
الحقيقة أن التحرك الدبلوماسي التركي المرن والثابت الذي أثار انتباه المراقبين والسياسيين في الآونة الأخيرة ليس حماسا طارئا ولا هو رد فعل لضغوط معينة، ولكنه حلقة في أجندة مدروس بذكاء تنطلق من رؤية إستراتيجية واضحة المعالم وواسعة الأفق، استهدفت بالأساس نزع ذلك التصنيف الذي حصر تركيا بمجرد كونها جسرا بين الشرق الإسلامي والغرب، وأنها نموذج معتبر يوصف لمن أراد الدمج السياسي بين الإسلام والديمقراطية ، إلى وضعية آخر أكثر لياقة وتقدما، بحيث تصبح دولة ذات وزن إقليمي لها دورها الفاعل في منطقة الشرق الأوسط، فتغدو مثل القاطرة التي تجر غيرها وليس مجرد جسر يعبر عليه الآخرون. لقد أصبحت تركيا، من خلال اتباعها سياسة إقليمية مخططة ومدروسة، على النحو المشار إليه، محوراً للكثير من الاتصالات والزيارات المتبادلة والوساطات السياسية المتعددة في المنطقة، ونقطة التقاء وتقاطع للعديد من التفاعلات الإقليمية والدولية، ولعل ما ساعد على ذلك هو تعدد مظاهر الضعف التي أصابت النظام الإقليمي العربي، والفراغ الذي خلفه الغياب العربي في الأزمات الإقليمية المختلفة.
وبعد أن كانت العلاقات بين تركيا والدول المجاورة لها قد شهدت توترات ملحوظة ومتعددة خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضي، بدأت حكومة حزب العدالة والتنمية تتبنّى ما سمّاه بعضهم بـ ( سياسات تصغير/تصفير) المشكلات مع دول الجوار بتخفيضها إلى أدنى درجة. كما اتبعت سياسة خارجية متعددة الاتجاهات تنطلق من إدراك واضح بترابط النزاعات الإقليمية وتأثيرها المتبادل في منطقة الشرق الأوسط، لتؤكد ضرورة التوصل إلى توافق إقليمي بين مختلف الأطراف لحلها. وقد نجحت هذه السياسة إلى حد كبير في إيجاد حلول لبعض المشكلات الإقليمية، الأمر الذي أسهم ذلك في دعم مركز حزب العدالة والتنمية على الخريطة السياسية الداخلية في مواجهة النخبة العلمانية المتطرفة. وقد شهدت الرؤية التركية الجديدة انجازات إقليمية مهمة في مفاصل مهمة وعلى مستويات عدة :
*) تمكنت الدبلوماسية التركية خلال الأيام القليلة الماضية من توقيع اتفاق اقتصادي وأمني غير مسبوق مع دول مجلس التعاون الخليجي.
*) الاشتراك في القمة الرباعية بدمشق، جنباً إلى جنب مع الرؤساء الثلاثة الفرنسي والسوري والقطري.
*) الزيارة التاريخية التي قام بها رئيس الجمهورية التركية لأرمينيا، واستهدفت في العلن حضور مباراة لكرة القدم بين البلدين، لكنها استهدفت في الحقيقة احتواء جراح عميقة لم تندمل منذ أكثر من تسعين عاماً.
*) تلعب تركيا دور الوسيط النزيه في إطار الزيارات رفيعة المستوى التي تمت بين سورية وتركيا ورعايتها للمفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل.
*) الدور التركي الظاهر في مؤتمر الدوحة الذي أنهى الأزمة اللبنانية، كما كان "طيب رجب أردوغان" الزعيم غير العربي الوحيد الذي تمت دعوته ضيف شرف إلى جلسة البرلمان اللبناني التي توجت حل هذه الأزمة.
*) المطاردة العسكرية لعناصر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وزيارة اليوم الواحد التي قام بها "أردوغان" إلى بغداد في يوليو/تموز الماضي (2008)، والتي أسفرت عن توقيع اتفاق تعاون استراتيجي بين البلدين، وتم خلالها استقباله بحفاوة رسمية بالغة ربما لم تحظ بها زيارة الرئيس الإيراني "محمود احمدي نجاد" السابقة إلى بغداد.
*) إضافة إلى تضاعف حجم الاستثمارات والسياحة والتبادل التجاري بين الجانبين العربي والتركي (يقدر حجم التبادل بعشرين مليار دولار أي نحو 8% من إجمالي حجم المعاملات التجارية لتركيا).
هذا الدور الإقليمي المتصاعد لتركيا في المنطقة العربية لا يمكن أن يؤثر بأي حال من الأحوال على العلاقة التركية-الإسرائيلية، فثمة اعتبارات استراتيجية وأمنية وتكنولوجية كبيرة تحكم هذه العلاقات ليس من السهل تجاوزها أو فك الارتباط بها. وهي علاقات حيوية ومفيدة لتركيا في واشنطن، ويواجه أي مساس بهذه العلاقات بمواقف صارمة من المؤسسة العسكرية التركية والعلمانيين. وعلى الرغم من ترحيب تركيا بتطوير علاقاتها الاقتصادية مع العرب، فإن علينا ألا نتوقع أن يحصل الجانب العربي على المعادل السياسي لذلك، أي بذهاب تركيا بعيداً في تأييدها للقضايا العربية من جهة، كما أن قيام تركيا بدور إقليمي مناوئ لدور إيران الإقليمي أو على الأقل موازي له يواجه بقيود وكوابح موضوعية من جهة ثانية من بينها:
- إن تخيل قيام تركيا (السنيّة) بدور إقليمي مناوئ لإيران (الشيعية) لا ينسجم مع الأسس العلمانية للنظام التركي الحالي، كما أنه يثير مخاوف النخب العلمانية والعسكرية التركية من مخاطر غرق أنقرة في دوامة صراعات الشرق الإسلامي.
- إن البنية الديمغرافية الهشة لتركيا عرقياً ومذهبياً (12 مليون كردي، وعشرين مليون علوي، إلى جانب الأغلبية التركمانية)، تجعل أنقرة تحاذر من التفكير في الدخول بأي مواجهة ضد إيران.
- لتركيا مصالح مشتركة مهمة مع إيران، ولا سيما على صعيد استيراد النفط والغاز الطبيعي الإيرانيين، وللبلدين مواقف ومصالح مشتركة في مواجهة نزعات الأقلية الكردية للانفصال.
- سياسة حزب العدالة والتنمية، وإن كانت في بعض ملامحها "سنيّة" الطابع، إلا أن جوهرها يقوم على التواصل مع العمق التاريخي والجغرافي لمنطقة الجوار التركي، التي تشمل العرب كلهم والإيرانيين وغيرهم.
لكل ذلك، من المرجّح أن تكتفي تركيا بلعب دور إقليمي محسوب تجاه إيران، يقوم على خيار المصالح المشتركة والوساطة بينها وبين أطراف إقليمية أخرى دولية عند الضرورة (كما حدث بين طهران وواشنطن)، وستتجنب أنقرة بكل السبل الدخول في مواجهة ضد إيران في نطاق ما يعرف بسياسة التكلفة والعائد.