16 رمضان 1429

السؤال

عمري 35 سنة، وأعمل في مجال الدعوة إلى الله منذ 10 سنوات، حيث ألقي خطبة الجمعة ببعض بالمساجد، كما أقوم بعمل بعض حلقات لتحفيظ القرآن الكريم، ولله الحمد.
وقبل قدوم شهر رمضان قررت – في نفسي- أن أتوقف تمامًا عن القيام بأية مهام دعوية، خلال شهر رمضان، وأن أفرغ نفسي تمامًا للعبادة بكل أنواعها (صلاة/ قراءة قرآن/ قيام ليل/ تهجد/ أذكار/.....)، انطلاقًا من كونه شهرًا للتعبد والتزود الإيماني الذي يدفعني لمزيد من الحركة في مجال الدعوة الإسلامية بعد انتهاء هذا الشهر الكريم.
لكنني واجهت انتقادات شديدة من بعض إخواني في الله ممن أثق في دينهم، غير أني ما زلت متشككًا في الأمر.. فأفيدوني يرحمكم الله.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

الحمد لله وكفى وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال... ثم أما بعد:
أخانا في الله السلام عليك ورحمة الله وبركاته..
وأهلاً ومرحباً بك، وشكر الله لك ثقتك بإخوانك في موقع "المسلم"، ونسأل الله العلي القدير أن يجعلنا أهلاً لهذه الثقة، وأن يتقبل أعمالنا وأقوالنا، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها لمخلوق حظاً، وأن يرزقنا وإياك السداد والتوفيق، وأن يجري الحق على ألسنتنا، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.. وبعد:

أولاً: أعظم وظيفة:
إن الداعية إلى الله يؤدي أعظم وظيفة، ويقوم بأشرف مهمة؛ ألا وهي تعريف الناس بربهم، وحثهم على طاعته سبحانه لنيل رضاه وجنته؛ وتحذرهم من معصيته سبحانه، لتجنب غضبه وناره، قال تعالى في الثناء على المهمة التي يقوم بها الدعاة: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت – 33]. وقال صلى الله عليه وسلم (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا).

ثانيًا: خصوصية الفضل والأجر:
لا يخفى ما لشهر رمضان المبارك من خصوصية في الأجر، وفضل على بقية الشهور، فمن فطّر فيه صائمًا كان له مثل أجره، ففي الحديث: "من فطر صائماً فله مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" (حسن صحيح رواه الترمذي وغيره).
كما أن الصدقة فيه أفضل من غيره، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل قال: "صدقة في رمضان" (رواه الترمذي والبيهقي).
والعمرة فيه تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين: "عمرة في رمضان تعدل حجة" أو قال: "حجة معي".
وكل خصلة من خصال الخير فيه تعدل فريضة فيما سواه، والفريضة فيه بسبعين، وذلك لما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: {من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه}. (رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي).

ثالثًا: الدعوة في رمضان :
إذا كانت الدعوة إلى الله آكدة على أهل العلم والفقه في غير رمضان فإنها في رمضان تتأكد أكثر؛ قال تعالى آمرًا الأمة المسلمة بالدعوة إليه سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران- 104]. وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية". رواه البخاري. وإذا كان أجر القيام بمهام الدعوة إلى الله في غير رمضان كبير فإن أجرها في رمضان أكبر.

رابعًا: إذا هبت رياحك فاغتنمها:
للقلوب إقبال وإدبار؛ وحين تقبل قلوب العباد على الله في هذا الشهر الكريم فإنهم يهرعون إلى بيوت الله عز وجل، فيصلون ويذكرون الله ويتلون القرآن، ويسألون عما يجهلون من أمور دينهم، هنا لا بد أن يجدوا من يرد على تساؤلاتهم، ويرشدهم في أمور دينهم، ومن يكون هؤلاء إلا الدعاة إلى الله الذين من الله عليهم فزادهم بسطة في العلم والفقه.

خامسًا: فرصة سانحة للدعاة:
نعم إنها فرصة لا تعوض، فهذه الأجواء الإيمانية التي يكون الناس عليها في رمضان، وهذا الإقبال منقطع النظير على بيوت الله، وعلى الطاعات بحب ورغبة، هي فرصة بكل المقاييس لا يجب أن يضيعها الدعاة إلى الله، بل يجب عليهم أن يهبوا لاستثمار هذه الفرصة فيملأون المساجد علمًا وفقهًا وترتيلاً وذكرًا وتعليمًا وتوجيهًا.

سادسًا: التوازن لا الانزواء:
لا شك أن الداعية إلى الله هو أحوج الناس إلى التزود بوقود الإيمان، لكي يستطيع مواصلة السير في هذا الطريق الطويل، كما أن رمضان فرصة عظيمة لكي يقف الداعية مع نفسه وقفة يقيم فيها جهده ويراجع فيها وسائله وأدواته، وأيضًا يغذي فيها عقله وقلبه بما يقرأ ويفعل من صنوف البر والخير، لكن هذا لا يعني أن ينعزل عن الناس وينزوي في ركن المسجد بعيدًا عن الجمع الغفير من الصائمين الذين أقبلوا بقلوبهم على بيوت الله.
مطلوب من الداعية أن يكون متوازنًا؛ فلا يهمل نفسه فيحرمها من التزود بالإيمان، ولا يهمل دعوته فيحرمها الأجر بعزلها عن الناس وتركهم بلا نصيحة أو توجيه، ولكن عليه أن يوطن نفسه، فينظم أوقاته، ويرتب أعماله، فيعطي لهذا حقه ولهذا حقه، فيجعل وقتًا لنفسه يراجع فيه ما يحفظ من كتاب الله، ويزيد منه الجديد، ويستذكر ما يشكل عليه من مسائل الفقه التي استجدت في هذا الزمان، ويطالع بعض المواقف التربوية العالية من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمتع عينه بتقليب صفحات حديث النبي صلى الله عليه وسلم،.. إلخ.
وأيضًا عليه أن يجعل للناس وقتًا ينفعهم فيه بما فتح الله عليه من علم وفقه، فيصلي مع الناس الصلوات الخمس في المسجد، ويتخولهم بالموعظة، فيذكرهم برقيقة بعد صلاة الفجر، وحلقة ترتيل للقرآن بعد صلاة الظهر، ودرس فقه أو حديث بعد صلاة العصر، وخاطرة إيمانية بعد صلاة العشاء أو موعظة بين ركعات التراويح.
وهكذا يستطيع الداعية أن يقسم وقته؛ بين التزود بالإيمان وهو واجب وضرورة تمليها طبيعة وخصوصية الشهر الفضيل، وبين القيام بواجب الدعوة وهو واجب وفرصة عظيمة في هذا الشهر الذي تتضاعف فيه الحسنات.
وختاما؛
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياك بركة الوقت، وحسن إدارة الوقت، والتوازن في الأعمال، وأن يجعلنا وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. ويسعدنا تواصك.. وصلك الله بالخير .